الخميس 19 رمضان 1445 هـ :: 28 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

06- قواعد التمييز بين الحق والباطل 2


عناصر المادة
المقدمة
النوع الثاني: مرضى القلوب الشاكّون في الحق
الذين يعبدون الله على حرف
الحق لا يتعارض مع الحق أبداً
الجمع بين الأدلة الصحيحة وعدم ضربها ببعض
كيف نعرف الحق
الحق يقبل ممن جاء به أياً كان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

المقدمة

00:00:20

فقد سبق الكلام عن بعض القواعد الشرعية والتأصيلية في معرفة الحق، وضبطه، وتحريره، فمن ذلك ما تقدم في القاعدة الأولى بأن الحق واحد لا يتعدد، وأن هذا صراط الله المستقيم.
وكذلك تحدثنا عن إبطال النظريات التي تقول بتعدد الحق، ومن أمثلتها وحدة الأديان.
وكذلك من يقول: بأن كل مجتهد مصيب، ولو كان يجتهد فيما لا يجوز فيه الاجتهاد، كمسائل العقائد الثابتة، وأصول الدين المجمع عليها، أو أنه ليس بأهل للاجتهاد أصلاً، ونحو ذلك من الاستعمالات الباطلة لجملة كل مجتهد مصيب، وعلاقتها بموضوع الحق.
وكذلك تكلمنا عن جملة القول بتعدد الحق، وأن الحقيقة نسبيه، وأنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، وأن الحق الكامل ليس مع أحد معين، أو طائفة معينة، وأن الحق نسبي، وأنه لا يصح لأحد أن يحتكر الحقيقة، ونحو ذلك.
وتكلمنا عن بطلانها، وتفنيدها.
ثم تكلمنا عن القاعدة الثانية، وهي: من تجاوز الحق وقع في الباطل، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ[يونس: 32].
وتحدثنا عن الذين يحاولون الجمع بين الحق والباطل، وأن منهم علماء الضلالة الذين يلبسون الحق بالباطل، كاليهود، وضربنا بعض الأمثلة على هذا، مثل: الخلط بين الحرية والانفلات من الدين، والخلط بين الشورى والديمقراطية، وكذلك الخلط بين الشريعة والقوانين.

النوع الثاني: مرضى القلوب الشاكّون في الحق

00:02:54

ونتكلم عن النوع الثاني ممن يخلطون الحق بالباطل، وهم مرضى القلوب الشاكّون في الحق.
وقد قال الله : وارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ[التوبة: 45].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "مرض القلب هو نوع فساد يحصل للمرء، يفسد به تصوره للحق، وإرادته له، فلا يرى الحق حقا، أو يراه على خلاف ما هو عليه، أو ينقص إدراكه له، وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع، أو يحب الباطل الضار، أو يجتمعان له وهو الغالب" [إغاثة اللهفان: 1/17].
يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان أن هناك أناس يجتمع عندهم، يجتمع عندهم، بغض الحق النافع، ومحبة الباطل الضار، والحقيقة أن هذا مستلزم لهذا.
المنافقون المذبذبون بين الحق وأهله:
النوع الثالث: ممن يخلطون بين الحق والباطل، المنافقون المذبذبون بين الحق وأهله، والباطل وأهله.
وقد قال الله تعالى عنهم: مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 143]، فهم محتارين بين الإيمان والكفر، يعتريهم الشك فيميلون إلى هؤلاء تارة، وإلى هؤلاء تارة، كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [البقرة: 20].
والنبي ﷺ مثلهم بمثل دقيق فقال: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة يعني:  المترددة الحائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة [رواه مسلم: 7220].

الذين يعبدون الله على حرف

00:04:49

النوع الرابع ممن يخلطون بين الحق والباطل: عبيد الدنيا الذين يعبدون الله على حرف، قال تعالى في شأنهم: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج : 11].
قال ابن عباس : "كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاماً، ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء" [رواه البخاري: 4742].
القاعدة الثالثة: الجمع بين صحة الدليل وصحة الاستدلال:
القاعدة الثالثة: الجمع بين صحة الدليل، وصحة الاستدلال يوصل إلى الحق، فحتى تصل إلى الحق لا بد أن تتبع الدليل الصحيح، والفهم الصحيح للدليل أيضاً، يعني: طريقة الاستدلال بالنص.
فعرفنا أن من صفات الحق أنه إلهي المصدر، ليس بشري المصدر، وإذا كان إلهي المصدر فإنه لا بد أن يؤخذ من القرآن والسنة؛ لأنهما الوحي من الله، فالباحث عن الحق لا بد أن يتحرّى صحة الدليل الذي سيبني عليه الحق الذي يعتقده، أو يأخذ منه الحق الذي يعتقده.
صحة الدليل قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ[الأنعام: 57]، وهذه البينة هي الدليل الواضح الصحيح، معناها: أنا متمكن وموقن بما أنا عليه من أمر الوحي، عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، من، مصدرية، مصدر البينة من الله، آتية من الله، جاءت من الله.
قال أهل التفسير: لما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله، ولا من سنن رسول الله ﷺ إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم.
وأهل الحفظ والتثبت والإتقان منهم من جهة، وبين أهل الغفلة والوهم، وسوء الحفظ، والكذب، واختراع الأحاديث الكاذبة من جهة أخرى.
ولما كان هذا الدين هو الذي جاءنا عن الله ، وعن رسوله ﷺ في نقل الرواة، حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة، والبحث عن أحوالهم.
فإذاً، صحة الدليل القرآن منقول بالتواتر، مفروغ منه، السنة، هناك أحاديث تلقتها الأمة بالقبول كالصحيحين،  أمرها مفروض منه، وهناك أحاديث يجب البحث في صحتها، وكيف تعرف الصحة؟ بهؤلاء الناقلين.
ما مدى موثوقية هؤلاء الناقلين والحق علينا، بما أنه لا يمكن أن نعرف إلا من طريق ما جاء عن الله، وما جاء عن الله بالرواية، القرآن والسنة، فعند ذلك موضوع القرآن معروف، وموضوع السنة هذا.
فإذا عرفنا صحة الدليل، أنا أريد أن أتبع الحق، فبحثتُ عن الدليل، وعرفتُ صحة الدليل، ماذا بقي علي؟
التأكد من الفهم الصحيح للدليل، وهذه مسالة الاستدلال، صحة الاستدلال.


إذاً، عندنا أمران مهمان، صحة الدليل، وصحة الاستدلال، حتى لا يأتي شخص بحديث صحيح، ويأخذ منه معنى باطل.
يأتي بنص صحيح، ويفهم منه فهما منحرفاً، وقد يروّج على الناس، ويقول لهم: هذه آية، وهذا حديث رواه البخاري، لكن يفسره على غير مراد الله ومراد رسوله ﷺ.
فلو أخذنا مثالاً، بعض المبتدعة يقولون: توسلوا بجاه النبي ﷺ، يا جماعة ما هو دليلكم على هذا؟ قالوا: حديث: توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم، مثلاً، أو حديث: لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه.
أنت تعتقد أن مثل هذا الحجر يحميك من العين، ينفعك، استعمله.
وهذا باطل، لماذا؟ لأن النص غير صحيح أصلاً، مكذوب لا أصل له، وحديث: توسلوا بجاهي.
قال ابن تيمه رحمه الله: "هذا الحديث كذب، ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث" [مجموع الفتاوى: 1/319].
صحة الاستدلال: بعضهم يقول مثلاً في مسالة من مسائل الفلك، أو علم الأرض، يقول: الأرض مسطحة وليست كروية، دليلك يا هذا، قال: قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ[الرعد : 3]، نقول: هل المد يستلزم تسطيح الأرض أن تكون مسطحة؟ ألا يمكن أن تكون كروية وهي ممدودة؟
فإذاً، هذا الاستدلال غير صحيح، يعني: الاستدلال على أن الأرض مسطحة وليست كروية بحديث، أو بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ[الرعد: 3]، غير صحيح، فإن الكرة الكبيرة مهما سرتَ عليها ستجدها ممدودة أمامك، لو طفتَ عليها مرات ستجدها ممدودة أمامك.
سبحان الله، لو كانت مستطيلاً أو مربعاً لكان لها حافة وهاوية ونهاية، ونعرف أننا وصلنا الهاوية، نهاية العالم، نهاية الأرض، ثم إذا واصل المشي عليها إلى الأمام يسقط في الفضاء!، لكن هذا غير حاصل بالعكس الشيء الذي دائماً ممدوداً, وليس له حافة, ونهاية هذه الكرة.

الحق لا يتعارض مع الحق أبداً

00:11:40

القاعدة الرابعة: الحق لا يتعارض مع الحق أبداً، يعني: لا يوجد أمران من الحق بينهما تعارض, لا يوجد دليلان من الشرع بينهما تعارض، لا يمكن، مصدر واحد، كيف سيكون التعارض؟.
فمن الممتنع من الشرع والعقل أن تتعارض الأدلة الصحيحة؛ سواء كانت من القران, أومن السنة, أو الإجماع, أو القياس، فأن الوحي يصدّق بعضة بعضاً, ولا تتعارض أدلته مع بعض، سواء إن كان من القرآن, أو السنة, أو الإجماع هي أصلاً مسائل الإجماع من القرآن والسنة, وحتى القياس الصحيح لا يتعارض معها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الأدلة الصادقة لا تتعارض مدلولاتها" [الرد على المنطقيين: 1/267].
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "حجج الله لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يصدّق بعضه بعضا" [إعلام الموقعين: 3 /104]. الأحاديث لا يمكن أن يتعارض ما صح منها مع بعض، ولا تتعارض الآيات مع بعض، ولا تتعارض الآيات مع الأحاديث الصحيحة، وكذلك الأدلة النقلية الصحيحة لا تناقض العقل الصريح، فالعقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح من الكتاب والسنة أبداً، وهذه قاعدة المطردة.
فإذا تعارض نقل مع عقل، فما هي الاحتمالات؟ إما أن يكون النقل غير صحيح، كمن جاء بحديث: من أكل فولة بقشرها أخرج الله منه من الداء مثلها، فهذا الكلام لا يقبله العقل، بل هو كلام سخيف.
ولذلك قال ابن القيم -رحمه الله-: "لعن الله واضعه" [المنار المنيف في الصحيح والضعيف: 1/55].
ولو جاء واحد وقال: إن هناك تعارض، نقول: تتعارض مع المعقول.
الاحتمال الثاني: أن يكون هذا العقل غير صحيح، وهذا الفهم غير صحيح، فمثلاً: نفي بعض المبتدعة صفات الله تعالى؛ لأنه من المستحيل إثباتها عقلاً، لماذا؟
قال: لأن هذا يستلزم تشبيه الخالق بالمخلوق، لكن إذا جئت تناقشه فتقول: لماذا لا تريد إثباته لوجه الله؟ فيقول: لأننا إذا أثبتنا الوجه لله شبهناه بالمخلوقات؛ لأن المخلوق هو الذي له وجه، فإذا قلتَ له: أتثبت لله ذاتاً؟


فسيقول: نعم، وإلا  لو لم أثبت لله ذاتاً معنى ذلك أنه عدم، نفيت وجوده أصلاً، فتقول له: إذا أثبتَ له الذات أليس قد شبهت الله بخلقه بأن المخلوق له ذات؟  فإذا أثبت لله ذاتاً فقد شبهته بذات المخلوقات، وهذا كفر؟ سيقول: لا، ذات الله غير ذات المخلوقين، فنقول له: ووجه الله غير وجوه المخلوقين.
وإذا أثبت لله السمع والبصر، ونفى اليد والوجه، فنقول: كيف تثبت السمع والبصر؟، الآن لو أثبتها شبّهت الله بخلقه؛ لأن المخلوقات هي التي لها سمع وبصر، فكيف تثبت لله سمع وبصر؟، يقول: لا، سمع الله غير سمع المخلوقين، وبصر الله غير بصر المخلوقين، فنقول: هل عقلك يقبل هذا؟.
يقول: نعم، عقلي يقبل أنه ذات الله غير ذات المخلوقين، وعقلي يقبل أن سمع الله غير سمع المخلوقين، فنقول له: إن العقل الذي لا يقبل أن وجه الله ليس كوجه المخلوقين عقل منحرف، وإن العقل الذي لا يقبل أن يد الله ليست كيد المخلوقين عقل منحرف، فما هذا العقل المستعد أن يثبت لله ذاتاً، ويقول: ليست كذات المخلوقين، ثم ينفي الوجه!.
وهذا العقل المستعد أن يثبت لله سمعاً وبصراً، ويقول: ليس كسمع وبصر المخلوقين، ثم ينفي اليد لله، هذا عقل منحرف، لكن العقل الصريح، العقل المستقيم، يقبل ما أثبته الله لنفسه، فإذا أثبتَ الله لنفسه سمعاً، وبصراً، ووجهاً، ويداً، وأخبر أنه خلق آدم بيده، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ[الرحمن: 27]، فإذا أثبت لنفسه أثبت له هذا العقل الصريح.
فإذاً، ها أنت ترى بأن العقل الصريح لا يتناقض مع النقل الصحيح الذي فيه إثبات صفات الله.
كذلك من القواعد: أن التناقض والاختلاف من علامات الباطل، وهذه مندرجة تحت القاعدة السابقة للحق، ما هي؟ الحق لا يتعارض مع الحق أبداً، ذكرنا تحتها الآن أن التناقض والاختلاف من علامات الباطل، فالباطل مختلف متناقض، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء: 82]، اضطراباً وتضاداً.
وقد لا يفهم العقل أحياناً أمراً معينا، كالروح مثلاً، ماهي ماهية الروح؟ العقل لا يدرك ماهية الروح، كذلك العقل لا يدرك كيفية صفات الله، الكيفية، لا يستطيع العقل أن يتخيل يد الله، نقول: نعم، العقل له حدود، وإذا تعدّاها فإنه يزيغ وينحرف، ويأخذه الشطط، لأنه لا يجد نتيجة صحيحة.
فإذا قال الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي[الإسراء: 85]، انتهينا، عرفنا أن عقولنا لا تستطيع إدراك حقيقة الروح، هل هي شفافة؟ غير شفافة، هل هي مائية، هي هوائية، هي غازية، هي صلبة، ماهي؟
نقول: لا يوجد لدينا علم بهذا؛ لأن علمها عند الله، علم الروح عند ربي: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء: 85].
ولذلك نحن نؤمن بالمتشابه، ولا نخوض فيه، ونؤمن بالمحكم ونفهمه.

الجمع بين الأدلة الصحيحة وعدم ضربها ببعض

00:19:40

القاعدة الخامسة: يجب الجمع بين الأدلة الصحيحة، وعدم ضرب بعضها ببعض، فالزعم أن نصوص الشريعة تتصادم، أو بعض نصوص الشريعة تتصادم، أو يأتي مَن يعرضها عرضاً يوهم التصادم مرفوض شرعا؛ لأن هذا يؤدي للتشكيك بما أنزل الله، هذا يؤدي للتكذيب ببعض نصوص الشريعة.
ولذلك فإن النبي ﷺ لما خرج على بعض أصحابه وهم يتجادلون في القدر، غضب واحمرّ، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه حب الرمان من الغضب، من شدة الحمرة صار وجهه يشبه حب الرمان إذا فُقئ من شدة الاحمرار، قال: بهذا أُمرتم، أم بهذا أرسلتُ إليكم، لهذا خلقتم، تضربون القرآن بعضه ببعض، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألا تنازعوا فيه رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
لماذا؟ لأنهم أتوا بها على وجه المصادمة، طُرحت في المجلس بطريقة فيها ضرب بعضها ببعض، وليس التوفيق فيما بينها، وفهم كل واحد الفهم الصحيح، وكذلك تفسيره التفسير الصحيح، فلذلك أمرهم بالكف.
متى يكف الإنسان ؟ إما أن المسألة المطروحة علمها عند الله فقط، مثل: كيفية الصفة، كيف يد الله؟، كيف؟، نقول: أبداً، اسكت، كفّ، لا تستطيع أن تدرك هذا، أي واحد يدخل في أي مسالة يقول: استوى على العرش، يعني: بمماسة، أو بغير مماسة؟، وهل ذاته تمس العرش أم لا؟ نقول: أسكت ولا تخوض في هذا.
هل أخبرك الله بمسألة المماسة هذه؟ لم يخبرك، هل يتحمل عقلك الخوض فيها، وهل يصل إلى نتيجة فيها؟ وهل تستطيع أن تتخيل ذات الله، وكيفية الاستواء على عرشه؟ وهل هناك مماسة، أم لا؟، لا تستطيع.
إذاً، متى يسكت الإنسان؟ عندما يكون أمر هذا وعلمه عند الله مختص به سبحانه، متى الساعة؟ لا أحد يتكلم، عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي[الأعراف: 187]. انتهينا، أو أن يكون هو ليس عنده علم فيذهب ويسأل أهل العلم.


إذاً، من هذا يتبين أنه يجب علينا أن نجمع بين النصوص إذا ظهر لنا فيها تعارض؛ لأنها في الحقيقة ليست متعارضة أصلاً؟ لكن إذا توهم إنسان أن هناك تعارض، فماذا يفعل؟ يرجع إلى أهل العلم، ويقول: فهموني هذا الدليل، وفهموني هذا الدليل على وجهه، كأن يقرأ في القرآن فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ[الأعراف: 6]، نسأل المُرسل، والمرسل إليهم، نسأل الرسول، ومَن أُرسل إليه هذا الرسول، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، وهكذا قرأ في الآيات، ثم قرأ بعد ذلك قرأ آية: فَيَوْمَئِذٍ لّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39]، فقال: أنا صار عندي تعارض، وليس القرآن، فلا يأتي ويقول: يا شيخ: هذا القرآن فيه تعارض!، لا، يقول: أنا صار عندي تعارض، أنا قرأتُ آيات، وصار عندي تعارض؛ لأن الآيات نفسها ليس فيها تعارض، والقرآن نفسه ليس فيه تعارض.
لا تعارض فيما جاء عن الله تعالى، الله خبير، وحكيم، وعليم، ولا يمكن أن يأتي من عنده نصوص متعارضة ، فيأتي للعالم ويقول له: أنا صار عندي تعارض إذا أمكن أن تزيل هذا التعارض واللبس الذي حصل عندي، فيقول مثلا العالم له: السؤال المثبَت في الآية الأولى غير السؤال المنفي في الآية الثانية، السؤال المثبت الذي في الآية الأولى موضوعه شيء، والسؤال المنفي في الآية الثانية موضوعه شيء آخر.
فإن المثبت: سؤال التقريع والتوبيخ، لمن؟ للمرسل إليهم، ما جاءكم رسول؟ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ[الأنعام: 130]، ثم يضطروا للاعتراف: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا[الملك: 9].
والمنفي: سؤال الاستخبار، والاستعلام.
فإذاً، السؤال في اللغة العربية أنواع، قد يكون سؤال الاستخبار، والاستعلام، والاستفهام، وقد يكون سؤال استنكاري، سؤال تقريعي توبيخي.
الاستفهام في اللغة العربية له عدة استعمالات، شخص قرأ مثلاً في آيات أنهم يتكلمون يوم القيامة، وقرأ في آيات أخرى أنهم لا ينطقون، صار عنده هو تعارض وتضارب وليس القرآن.
فذهب للعالم قال له: والله يا شيخ أنا قرأت آيات فيها: أن الكفار يوم القيامة يتكلمون، ويردون، ويجادلون، وهناك آيات أخرى تقول: أنهم يخرسون، ولا يتكلمون، ولا ينطقون، كيف ذلك؟


فسيقول له: إن يوم القيامة يوم طويل، خمسين ألف سنة، وفيه أحوال، وفيه مقامات، ففي أحوال يُترك لهم المجال يتكلمون، ويجادلون، ثم يخُتم على أفواههم فلا يتكلمون ولا ينطقون، وهكذا.
ولو جاء سائل وسأل الشيخ كأن يكون تعارض عنده آية وحديث، أحياناً لا تتعارض على الإنسان آيتان فقط، ممكن يتعارض عنده حديثان، ممكن يتعارض عنده آية وحديث، مثلاً: قرأ آية: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]، ثم قرأ حديث آخر: لن يدخل أحدكم عمله الجنة لن يدخل أحدا عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة [رواه البخاري: 5673].
والآية: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[النحل: 32]، والحديث: لن يدخل أحدا عمله الجنة فسيأتيه الجواب من أهل العلم أن الآية التي فيها ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذه باء السببية، يعني: ادخلوا الجنة بسبب الأعمال التي عملتموها.
فالأعمال سبب للدخول، وليست ثمن أو مكافئ، وليست مساوية للجنة، والحديث يتكلم عن أن العمل يساوي الجنة ويكافئها؟، لا، لن يدخل، ولا وعد؛ لأنه كله ولا شكر نعمة من النعم.
فإذاً، هذه عن السببية، وهذه عن الثمنية، فالذي فيها الإثبات أن الأعمال سبب دخول الجنة، والذي فيه النفي: الثمن والمكافئة؛ أي أنه لا تكافئ الأعمال، كل أعمالك لو دخلت الجنة ليست مكافئة للجنة، ولا مساوية، ولا تعادل، لكن سبب، وقد تقرأ أحياناً حديثين، أو حديث وآية، آية وحديث كما قلنا، ويأتي شيء عنده من التعارض، فيقول: عندي أنا التعارض.
مثلاً: يأتي مثلاً على نص مثلا: تلك، يعني: النبي ﷺ قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله [رواه البخاري: 3414، ومسلم: 6300]، ويأتي مثلاً على آية: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ[الإسراء: 55]، أليس هناك تعارض؟
نقول: التعارض عندنا، النهي عن التفضيل بين الأنبياء في الحديث على وجه يؤدي إلى التنقص من المفضول؛ لأنه أصلاً صارت قصة بين مسلم ويهودي، وقام اليهودي قال له: والذي اصطفى موسى عن البشر، فالمسلم صفعه؛ لطم وجهه، وقال: تقول اصطفى موسى على البشر، والنبي ﷺ بين أظهرنا؟، وراح وارتفعوا فقال: لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ لأنه خشي أن يؤدي التفضيل إلى ازدراء المفضل عليه، فلا تفضلوا تفضيلاً يكون فيه ازدراء، أو انتقاص من المفضول، والآية أنه حقيقتا في أنبياء أفضل من أنبياء عند الله لكن بلا انتقاص، وازدراء، وعيب، ألا تعيب على المفضول.
كلهم كرام، كلهم عظام، كلهم أتاهم الوحي من الله، لهم عند الله مكانة عظيمة, وهكذا.
فالشاهد: ليس هناك دليل، لا يوجد في لحق تعارض، أدله الحق تلتقي وتجتمع, ويؤيد بعضها بعض، إذا ظهر تعارض فهو عندنا, وليس في ذات الدليل، ولا ذات الوحي.

كيف نعرف الحق

00:30:49

القاعدة السادسة: لا يعرف الحق, ولا يُقاس, ولا يوزن بالرجال:
أعرف الحق تعرف أهلة، فالحق ليس مقصوراً على كلام فلان من البشر طبعا غير الأنبياء, وأنه فلان, وأنه الرجل الفلاني لا يتكلم  إلا بالحق، الرجال يخطئون, ويصيبون.
لكن كلما كان الرجل أعلم كلما كان خطئه أقل، وصوابه أكثر, وكلما كان أجهل خطئه أكثر, وصوابه أقل, والأنبياء معصومون في تبليغ الوحي ليس هناك خطأ أبداً, والعصمة للأنبياء فيما يبلغونه من الوحي.
فأنت الآن ما تقول:هذا حق؛ لأن فلان قاله طبعا غير الأنبياء, الأنبياء هذا وضع آخر, والله هذا شيء حق؛ لأن فلان قاله، لا، فلان قد يخطئ، فالله يحق الحق بكلماته.
ولما رأى علي ؛ الفتنه قد حصلت قال: أن الحق لا يُعرف بالرجال.
يعني: ليس لأن فلان يقول، إذاً، كل كلامه حق, إذا أردنا أن نعرف الحق نمسك أقوال كلام فلان من أولها إلى  أخرها يطلع عندنا الحق، لا، قال: أن الحق لا يعرف بالرجال أعرف الحق تعرف أهلة، فالإنسان مهما كانت منزلته فهو بشر, وقد يكون صاحب دين وورع, لكنه ليس صاحب فهم قوي، وقد يكون صاحب فهم قوي لكنه لكن في أمانتة شيء.
ولذلك عندما يأتي واحد ويقول: أنا سمعتُ الشيخ في القناة الفضائية يقول: أنه النسبة في الفوائد التي في البنوك إذا كانت أقل من خمسة في المائة يجوز!.
نقول: وهل أنك إذا سمعت شيخ في القناة الفضائية صار حق، الحق قال الله, قال الرسول.
وقال آخر: دعاء القنوت أربعين دقيقة صحيح، يقول: في بعض المساجد الكبار يقنتون أربعين دقيقة.
نقول لك: ما هو صحته؟ وهل إذا فعل المسجد الفلاني هكذا صار صحيحاً؛ لأنهم بشر, واعتماد هذه المسألة يؤدي إلى باطل كثير، وما نشأ التعصب المذهبي إلا بسبب هذا، يعني الآن  لما بعض الناس في المذاهب صاروا يضربوا بعض، لماذا؟.
لأنه يقول: شيخنا هو الحق, وشيخكم لا، فلما صار بعض الناس يعتقد بأنه كلما يقوله أبي حنيفة حق, ويجيء آخر ويقول: كلما يقوله مالك حق, وآخر يقول: كل ما يقوله أحمد حق, واحد يقول: كل ما يقوله الشافعي حق.


صار عندنا التعصب المذهبي, وصار هناك تقاتل بينهم, وقت من الأوقات في أربع محاريب في مسجد واحد لا يصلي  هؤلاء وراء هؤلاء, ولا هؤلاء وراء هؤلاء، لأنهم خرجوا عن هذه القاعدة, ومشوا على شيء باطل؛ أنه كلما يقوله فلان هو الحق، الله ما حصر الحق في رجل إلا محمد ﷺ.
حتى قال أبو بكر: أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً [رواه البخاري: 7046، ومسلم: 6066]، في مسألة تأويل الرؤيا، حتى كبار الصحابة خفيت عليهم أشياء، وأخطئوا في أشياء، وعدم اعتماد هذه القاعدة يؤدي إلى انتشار التعصب إلى أصحاب المذاهب.
والمسألة أخذت أبعاد خطيرة، وإليكم هذه القصة:
يقول ابن عربي -رحمه الله-: إن شيخه الإمام أبو بكر الطرطوشي  -رحمه الله- دخل المسجد، وصلى، ورفع يديه عند الركوع، وهناك بعض المتعصبة لمذهب آخر ليس عندهم في مذهبهم رفع اليد إلا في تكبيرة الإحرام فقط.
فلما رأوا هذا الإمام يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس عند الركوع، يقول ابن عربي: "سمعتُ بعضهم يقول لبعض: ألا ترون إلى هذا المشرقي، كيف دخل مسجدنا ويرفع يديه عند الرفع منه؟، قوموا إليه فاقتلوه، وارموا به في البحر، ولا يراكم أحد".
هكذا بكل بساطه، اسفكوا دمه، اقتلوه، ارموه في البحر، ولا أحد يدرى، ولا أحد يسمع!.
يقول ابن عربي -رحمه الله-: "فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله! هذا الطرطوشي فقيه الوقت، هذا من أكبر علماء الزمان، وذهب إليهم، وقال: اتقوا الله، فقالوا لي: ولماذا يرفع يديه؟، قلت: كذلك كان النبي ﷺ يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه.
قال: فجعلتُ أسكنهم، وأسكتهم، حتى فرغ من صلاته، وقمتُ معه إلى المسكن، فرأى تغير وجهي وانزعاجي، فسألني، فأخبرته، فضحك، ثم قال: "ومن أين لي أن أُقتل على سنة"؟. [انظر: الاعتصام للشاطبي ص: 464].
يعني: ذهبت علي فرصة أن أقتل شهيد السنة، ومن أين أجد الآن فرصة أن أقتل من أجل تطبيق سنة.
من مصائب هذا الموضوع استباحة كثير من المحرمات، بأن الشيخ الفلاني يفعله.
فصارت قضية –مثلاً- التمسح بالقبور؛ لأن الشيخ الفلاني عنده درس في المسجد، وما أنكر علينا التمسح بالقبور، فالتمسح يقولون: ليس فيه شيء، ولو كان فيه شيء لكان أنكره الشيخ، وهذه وقعت في عدة بلدان.


يحتج العوام على صحة الشيء أن الشيخ كان جالس في المسجد، وألقى درس في المسجد، وما أنكر.
ربما يكون الشيخ نفسه عنده انحرف، أو خطأ، أو ربما يكون الشيخ خائفاً، أو ناسياً، أو ما انتبه.
ما تحتاج، خلاص، هذا ليس نبي حتى تقول: وإذا سكت عن شيء فهو حق؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، هذاك مؤيد بالوحي، النبي ﷺ مؤيد بالوحي، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[مريم : 64].
وإذا حصل شيء أمام النبي -عليه الصلاة والسلام- وما أنكره، فهو حق أو مباح؛ لأنه لو كان حرام كان الله أوحى إليه أن هذا محرم، ولا يجوز للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن يكتم، أو يسكت عن بيان الحق في بيان الحكم في وقت الحاجة، هذا النبي عليه الصلاة والسلام.
أما تقول لي: فلان، وفلان، فلان، وفلان، هذا يخطئ، وهذا ينسى، وهذا يكون جباناً، وهذا يرى المصلحة في شيء، ويرى في كلامه الآن مفسدة، أسباب كثيرة.
ولذلك أوتينا من قضية: والله الضريح في المكان الفلاني ليس فيه شيء؛ لأن الشيخ كان موجود، والإمام الفلاني ما ذهب ولم يتكلم.
وقد دخل الشيخ عبد الرحمن ابن عبد الصمد -رحمه الله-، وهو من أهل العلم السلفيين في هذا الزمان، وهو من أهل فلسطين، يقول: ذهبتُ إلى مسجد في الشام فيه ضريح، والناس تدخل وتطوف، وتمسح، وتتبرك!، يقول: فناقشت الناس، قالوا: شيخنا ما قال شيء، ما أنكر علينا، يقول: فذهبتُ إليه، وقلت: يا شيخ اتقِ الله، الشرك في المسجد، قال: أين هو؟ قلت: في المسجد، القبر الذي يطوف الناس حوله، قال: وما فيها؟
أيش فيها! الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[الأعراف: 194]، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ[فاطر: 14]، ماذا رد عليه؟
قال: يا أبني هذه آية وهابية، أيش لك فيها، ولذلك العوام ليس عندهم معاير صحيحة، يعني ممكن يأتوا بشيخ؛ لأن لحيته كبيرة، طويلة، يعتبروه عالم على طول اللحية، على بياض اللحية، وهذه ما كانت في معايير أهل العلم دليلاً على العلم وعدم العلم.
والله لما قال: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا[الممتحنة: 5]، يعني: ربنا لا تجعلنا سبب فتنة للذين كفروا، اصرف عنا اختلال الأمر، وسوء الحال؛ حتى لا نكون سبب في الفتنة.
هنا لا بد أن نوازن الطرح هذا بقضية مهمة جداً؛ وهي: أن بعض الناس يقولون: نحن والعلماء شيء واحد، يعني: ما دامت المسألة أن الحق لا يعرف بالرجال، والرجال يعرفون بالحق، فالمسألة إذاً، نحن وأياهم واحد، وأنا غير ملزم بكلام فلان وعلان!.
بما أنك تقول الآن: إن الحق لا يعرف بالرجال، فإذاً، أنا غير ملزم بقول أي عالم، نقول: لقد أبعت النعجة، وخالفت الحق أولاً: لما نقول الرجال العلماء غير معصومين، ليس معناه إلغاء دور العلماء، ولا معناه: أن تستفتي نفسك وأنت جاهل، لما نقول: العالم غير معصوم لا يعني إلغاء دور العالم.
كيف نلغيه والله يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[النحل: 43]، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران: 7]، على قوله في التفسير يقولون آمنا به الراسخون.


فإذاً، لا بد من الرجوع، لا بد من المرجعية، لا بد أن ترجع لأهل العلم، وكون العالم غير معصوم، لا يلغي دوره، ولا يلغي الرجوع إليه، بل يجب الرجوع لأهل العلم، و هذا العالم إذا أفتاك، وكان اجتهاده صحيحاً يؤجر أجرين، أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد، وإذا كان مخطأ لأنه بشر، فأنت فعلت ما عليك بالاستفتاء، وهو فعل ما عليه بالاجتهاد، وإذا كان مؤهلاً، واجتهد لك، لو أخطأ أنت مأجور، ومعذور بسؤالك العالم، وهو مأجور ومعذور بالخطأ؛ لأنه بشر، وهكذا تفهم المسألة بشكل صحيح.
لكن سؤال، هل العلماء أكثر أقوالهم صواب، أم خطأ؟ جاوبوني.
أكثر العلماء أقوالهم صواب، ولذلك مرجعيتنا إليهم؛ لأن أكثر ما يقولونه صواباً، لا لأن كل ما يقولونه صواب، لكن لأن نسبة الصواب في أقوالهم عالية جدا؛ لأنهم علماء وجب الرجوع إليهم.
ولو كان رسول الله ﷺ حياً بين أظهرنا، وهو الذي لا يوجد في تبليغه عن ربه خطأ، كنا سألناه مباشرة، وكذلك العالم إذا علم المسألة يعمل بها، ولا يسأل غيره؛ لأنه واضحة عنده، وهو عالم.
لكن الجاهل -يا إخوان-، العامي، يقول: واضحة؛ لأنه مسكين، وأحياناً العامي يظن أنها واضحة، وهي ليست واضحة، وأحياناً يأتي  بكلام مضحك، وأفهام ليست بشيء، والمشكلة أن العامي لا يعرف اللغة العربية.
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا [هود: 48]، يا ابن الحلال كيف تقرأ هكذا، بسلام، لا سلم، لماذا سلم؟ قال: السفينة فوق كيف سينزلون؟
مشكلة بعض العوام أنه يخطئ، ويفلسف الخطأ، ويطلع أسباب، ولذلك لا بد من الرجوع إلى أهل العلم، وخصوصا أهل السنة، علماء أهل السنة الكبار، لماذا قيل: لا يفتي ومالك في المدينة؟، ولماذا قيل: إذا وقع في أحمد فاتهمه على الإسلام؟ لماذا قيلت هذه الأقوال؟
لأن هؤلاء قاموا لله، ما شهد هو لنفسه قال: ترى أنا عالم واسألوني، شهدوا له العلماء، يعني: مالك كم عالم شهد له بالعلم والفتوى؟، وأحمد كم عالم شهد له بالعلم والدين، وصحة العقيدة؟ وكلامه فيه، أحمد ابن حنبل حجة الله بين عبيدة في أرضه، من سمعتموه يذكر أحمد بسوء فاتهموه على الإسلام.


أحمد محنة، به يعرف المسلم من الزنديق، إذا رأيت الرجل يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، من أين جاء؟ هذا كلام العلماء في أحمد، هذا كلام على بن المديني في أحمد، وكلام أبو حاتم الرازي في أحمد، وكلام أبو الحسن الهمداني في أحمد، وهذا كلام أحمد إبراهيم الدورقي في أحمد، هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي في أحمد.
وكذلك هذا كلام فلان، وفلان، وفلان في مالك، وكذلك فلان، وفلان، وفلان في الشافعي، وفلان، وفلان، وفلان في أبي حنيفة، وفلان وفلان في الأوزاعي، وفي شعبة، وفي إسحاق، وهكذا.
هؤلاء العلماء يشهد بعضهم لبعض، ويعدّل بعضهم لبعض، ويعرف بعضهم بضاً، ويزكي بعضهم بعضاً.
أما الجاهل لا يدري، بل ربما فتح الجاهل متصفح جوجل، يقول: جوجل هذا حجة، هذا أعلم واحد في العالم، يعرف كل شيء، يطلع كنيف وعلم من الجرس محل ما تضربه يرن، شوف كيف هذا.
ولذلك مسألة أن البشر غير معصومين، وأن قضية الحق يعرف بالرجال، وأنه الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، هذا لا يتعارض مع،فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ[النحل: 43]، والرجوع إلى أهال العلم، ومحبة أهل العلم، وبالذات إذا أجمعوا.
أما إذا أجمعوا، والله الذي لا إلا هو أن مخالفهم منحرف؛ لأن الله قال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115].
ومن الذي يعرف إجماع العلماء؟ العالم، الشخص العادي لا يعرف ماذا أجمعوا عليه، وما أجمعوا عليه، لا يعرف، هذه، يعني: حتى الواحد يعرف أقوال العلماء في الشرق والغرب، هذه كم تحتاج إلى بحث؟ كم تحتاج إلى جمع.
فإذاً، ما هي آخر قاعدة الآن ذكرناها؟
لا يعرف الحق بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق، هذه القاعدة كما قلنا: تجنبنا التعصب للأشخاص، والمذاهب، وتجنبنا استباحة محرم، لأن شيخاً عمل بحضرته؛ وخصوصا ترى إخواني هذا الكلام هم طرحه بجانبيه.
يعني: من هنا ومن هنا، كما طرحناه، مهم؛ لأن بعض الناس يحتجون، يقولون: مصافحة المرأة الأجنبية حلال؛ لأن الشيخ فلان صافح امرأة أمام الناس، وفي الحفل، صافح امرأة أجنبية، والشيخ فلان طلعت مذيعه متبرجة وما أنكر عليها، والشيخ فلان عُزفت الموسيقى بحضرته وما أنكر، والشيخ فلان.
نقول: لحظه، الحق لا يعرف بالرجال، الحق له أدلة، وله علماء يدلون عليه، أما إذا خالف عالم الدليل، الحق بالدليل وليس مع العالم.

الحق يقبل ممن جاء به أياً كان

00:48:49

القاعدة السابعة: الحق يقبل ممن جاء به أياً كان:
حبيبا أو بغيضاً، براً أو فاجراً، صغيراً أو كبيرا، إذا عرف أن هذا حق فإنه لا يرد، الحق يقبل لكونه موافق للدليل، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البقرة: 213].
فمن هداه الله إلى الأخذ بالحق، حيث كان، ومع من كان، فقد هُدي، خذوا الحق ممن جاء به، وردوا الباطل على من جاء به.
وقد امتدح الله القائل بالصدق، والمصدق به فقال:وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33]، فعلى الإنسان أن يصدق الحق الذي يقوله غيره، كما يصدق الحق الذي يقوله هو.
إذا كنت فعلاً تحب الحق، لو قال: لو أنت قلته وقاله غيرك، لا فرق عندك، المهم أن يعرف، المهم أن يأخذ به، أن يأخذ به، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32].
بعض الناس لأن فلان جاء، اليهود كفروا؟ يقول: طلع النبي عربي، ونحن نتوقعه يهودي، ونتمنى أن يكون يهودي، جاء عربي كفروا، مع أنه موافق، للصفات المذكورة عنهم، ولذلك قال الله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ[الزمر: 32]، فذمّ من كذب بالحق.
 وكثير من الناس يرفضون الحق؛ لأن فلان قاله ممن لا يعجبه، أو بينه وبينه عداوة شخصية، المشركون رفضوا الحق لماذا؟ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41]، فقير، لماذا جعل هذا الفقير، وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا، وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ۝ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ[الزخرف: 30 ، 31]
إذاً، تقبل الحق من أي من كان، ومن جاء به، والنبي ﷺ لما قال اليهودي كلمة حق قبلها، ذلك اليهودي الذي أتى النبي ﷺ، وقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.


بعض المسلمين أخطأ من تعظيمهم الكعبة، فكان يحلف بالكعبة، فالنبي ﷺ قبلها، وعرف هذا، إذاً، كان بعض المسلمين يفعلون باطل، فقال: إعلان عام، قال: أمرهم ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت [رواه النسائي:  3773، وابن ماجة: 2117، وصححه الألباني: 136].
فما منعه بغضه لليهود من قبول كلمة الحق لما قاله واحد منهم، صحيح هو قاله انتقاداً للمسلمين، لكن كلمة حق، لو واحد الآن كافر انتقد علينا أي شيء، يعني: حتى من غير أمور العبادات المحضة.
 وجاء وقال: أنتم المسلمون عندكم كثير من المشاكل في النظافة، وعندكم مشاكل في النظام، ومشاكل في الصحة، ومشاكل في البيئة، ومشاكل، نعم تقبل.
لكن المشكلة الآن صار بعض المسلمين من إعجابهم بالكفار يأخذون كل شيء منهم حتى الباطل، ومن ازدرائهم بإخوانهم المسلمين لا يأخذون منهم شيئاً وإن كان حقاً.
يعني: الآن مصيبة صارت مضاعفة يعني، مصيبة الآن حجمها ضرب اثنين، صرنا نأخذ من الكفار كل شيء، ونعرض عن أهل الحق، إلا من رحم الله،.
ولما علم الشيطان أبا هريرة أن آية الكرسي مفيدة قبل النوم، ولا يقربك الشيطان، قال له النبي ﷺ: صدقك وهو كذوب [رواه البخاري: 3275].
ما قال: لا، لماذا؟ لأن إبليس الذي قالها، لا، أبدا لم يفعل ذلك، صدقك وهو كذوب، هذه المرة صدقك، وإلا فهو كذوب؛ لأنه صار في وضع صعب.
أبو هريرة ألقى القبض عليه، وقال: "لأرفعنك إلى رسول الله ﷺ"، والشيطان يعرف أن أبا هريرة يحب العلم، فكأنه رشاه بمسألة من العلم، وقال: فك قيدي، وسأعطيك معلومة وفعلاً، معلومة صحيحة.
القاعدة الثامنة: لا يحاكم الحق بالواقع، بل الحق يحكم على الواقع:
بما أن الحق يعرف بأماراته، ودلالاته الشرعية، فهو يحكم على الواقع، وليس الواقع هو الذي يحكم على الحق.


لا نقول: الواقع مصدر الحق، الواقع يمكن فيه انحرافات من هب ودب.
ولذلك لا يجوز للواحد أن يقول: والله الفوائد الربوية هذه حلال؛ لأنه معمول بها في البنوك والواقع، الدخان حلال؛ لأنه في كل البقالات موجود، والشيء الفلاني حلال؛ لأن كل الناس تفعله!.
الواقع ليس دليلاً على الحق، الحق هو الذي يحكم في الواقع، وليس العكس، وهذه مصيبة كثير من الناس، مثل الاختلاط، التبرج، التدخين، الموسيقى، أي شيء، كل الناس تفعل، كثير، أكثرهم كذا، هذا ليس دليلا على الحق البته، البته، وإنما الحق هو الذي يحكم في الواقع، وهو الذي يبين هل الواقع صحيح، أو الواقع خطأ، الواقع ماذا فيه؟
هذا هو ما يجب أن يكون.
هذه إذاً بعض القواعد أيها الأخوة التي يُعمل بها في التعامل مع الحق، وسنعرف إن شاء الله في الدرس القادم ما هو الموقف من الحق؟ بإذن الله ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.