الجمعة 11 شوّال 1445 هـ :: 19 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

التناجي


عناصر المادة
الخطبة الأولى
آيات التناجي والحكمة من تحريم النجوى
حكم التناجي عند العلماء
شروط جواز التناجي
صور التناجي المحرمة والمباحة
الخطبة الثانية
التناجي عادة سيئة بين الناس

الخطبة الأولى

00:00:07

أيها الإخوة: ذكرنا في الخطبتين الماضيتين شيئاً من أحكام المجالس وآدابها في الإسلام، وقلنا -أيها الإخوة- بأن ذلك الموضوع موضوع حساس ومهم، ونحن اليوم نتكلم عن أدب آخر من الآداب، وهو وإن كان داخلاً في ضمن آداب المجالس إلا أن العلماء قد أفردوه في أبواب مستقلة، من خلال مصنفاتهم نظراً لأهميته، ولشدة الآيات والأحاديث الواردة فيه، ونظراً لفشوا هذه القضية أيها الإخوة بين الناس اليوم في مجالسهم، فكان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة، وإيجاد حل لها من خلال كلام ربنا ، وأحاديث نبينا محمد ﷺ.

آيات التناجي والحكمة من تحريم النجوى

00:01:17

ألا وإن هذا الموضوع أيها الإخوة هو: موضوع التناجي، موضوع التناجي الذي قال الله في شأنه في ثلاث آيات متتابعة من سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ۝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ۝ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَسورة المجادلة 8-10. فبين الله أن الحكمة في تحريم النجوى، أنها تحزن الذين آمنوا.

قال ابن كثير رحمه الله: "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ يعني: إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ليسوءهم وَلَيْسَ ذلك بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ–مطلقاً- ومن أحس من التناجي ضرراً فماذا يفعل، فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله".

فإذا أحسست يا أخي المسلم بحزن من جراء تناجي بعض الناس أمامك فإنه يشرع لك: أن تستعيذ بالله، وتتوكل على الله، وتنزل هذه الضائقة بالله فيكشفها الله عنك، والتناجي أيها الإخوة من صفات المنافقين، فإنهم كانوا يتناجون دون المؤمنين، لماذا؟ حتى يُحزِنوا الذين آمنوا، وكان اليهود أيضاً يتناجون إذا رأوا مسلماً يمر من أمامهم، فيتناجون حتى يخيفوا ذلك المسلم، ويوهموه بأنهم يدبروا حوله مؤامرة، ويحوكوا حوله أخدوعة لعلهم يهلكوه بها، فكان المسلمون يحزنون لذلك فيجتنبون تلك الطرق؛ فنزلت هذه الآية تشتد على هؤلاء اليهود والمنافقين، وتبين للمؤمنين بأن هذا التناجي لا يضر مطلقاً إلا بإذن الله وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فهم يتوكلون على الله، فيمنع الله عنهم ذلك الكيد وذلك العداء.

وقد جاءت سنة نبينا محمد ﷺ مبينة لهذه الأحكام، فقال ابن مسعود : عن رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس لا يتناجى اثنان دون الآخر –الثالث- حتى تختلطوا بالناس، لماذا؟ ما هي العلة المهمة جداً التي ينبغي لنا أن نفقهها؛ لأن عليها مدار الحكم، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم، ما هي العلة في منع التناجي؟ يقول ﷺ في بقية الحديث: فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن يحزنه[أخرجه مسلم 2184]. فصار الحزن أيها الإخوة هو: المانع من التناجي، وهو السبب.

لماذا يحزنه؟ يحزنه أيها الإخوة لأسباب ذكر منها العلماء بعضها فقالوا:

أولاً: ربما يتوهم هذا الرجل الثالث أن نجواهما لتبييت رأي، أو تدسيس غائلة ضده، ربما يتوهم هذا الرجل الثالث بأن هذين الاثنين المتسارين يبيتان له أمر سوء، يحيكان شراً حوله، فلأجل ذلك منع التناجي.

والعلة الأخرى: من أجل الاختصاص بالكرامة يعني: كأن هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي تناجينا دونه لست بأهل لسماع كلامنا، وهذا الكلام ليس على مستوايَ إلا أنا وصاحبي، أما أنت فلست بأهل له، وليست هذه كرامة لك، وإنما كرامة لنا نحن المتناجيين، فهذه العلة أيها الإخوة أيضاً فيها الحزن الذي بينه رسول الله ﷺ، يعني: أن فيها احتقار للشخص الثالث؛ لأنه ليس على مستوى الكلام كما يدعيان.

حكم التناجي عند العلماء

00:08:02

وإذا نظرنا إلى الحكم في التناجي فقد ذكر بعض العلماء أن حكمه الكراهة، وذكر بعضهم أن حكمه التحريم، والظاهر أيها الإخوة أن الحكم في ذلك التحريم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا(سورة الأحزاب 58). وأذية المؤمن محرمة، ولذلك يقول الله في هذه الآية: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وبما أن في التناجي إيذاء للمؤمن، إيذاء المسلم لأخيه المسلم، والإيذاء محرم بنص القرآن، فلذلك صار التناجي محرماً.

وقد فهم صحابة رسول الله ﷺ هذه المسألة، وفهموها حق فهمها، فروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه - جاء رجل عند ابن عمر وابن عمر يريد أن يناجيه – وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلاً آخر من السوق، قال لرجل رابع: تعال، دعاه، حتى كنا أربعة، ثم قال لي وللرجل الثالث الذي دعا: استأخرا شيئاً، واستأخرا من التأخر، حتى يبلغ المناجي مراده، تأخر أنت والرابع شيئاً حتى أتمكن من كلام هذا الرجل الذي معي، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يتناجى اثنان دون واحد [أخرجه مالك 1856].

ويقول ابن مسعود لما جاءه رجل يريد أن يدخل بينه وبين رجل آخر لكزه في صدره وقال له: ألم تسمع أن رسول الله ﷺ يقول: إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما[تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 280)]. فالحكم الثاني من أحكام المناجاة: أنك يا أخي المسلم إذا رأيت اثنين يتناجيان فيما بينهما، وأنت لم تكن معهما، وإنما دخلت عليهما الآن، فإنه لا يجوز لك أن تدخل وتجلس بينهما، أو تقرب رأسك منهما حتى تسمع كلامهما؛ لأن رسول الله ﷺ قال في الحديث الصحيح: إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما[تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 280)]. فإذاً قال ابن عبد البر رحمه الله: "لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما" وقال في الآداب الكبرى: "ويكره أن يدخل في سر قوم لم يُدخِلوه فيه، والجلوس والإصغاء إلى من يتحدث سراً" والرسول الله ﷺ في هذا الحديث أخبر بمنع الرجل أن يدخل بين اثنين، هذا يعم أيها الإخوة عدم الدخول بينهما، حتى ولو تباعد عنهما، حتى لو جلس بعيداً عنهما إلا بإذنهما، إذا قال: عن إذنكم أن أدخل وأجلس في المجلس، وهما يتكلمان فأذنا له فيجلس بعيداً عنهما؛ لأنهما لما افتتحا حديثهما سراً وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما أن لا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدها جهوري لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضر، بعض الناس طبيعة صوته أنه مرتفع، فقد لا يستطيع أن يهمس همساً، ويسر إسراراً، فلذلك نهي عن الدخول بين المتناجيين، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم بحيث إذا سمع بعض أطراف الكلام استنتج فحوى الكلام كله؛ ولذلك لا يجوز الدخول على المتناجيين، لا يجوز الدخول من الخارج، أما المسألة الأولى التي تكلمنا عنها، فإنه لا يجوز لاثنين أن يتكلما بحضرة رجل ثالث وهو موجود أصلاً.

ويقول في تأكيد المنع في هذه المسألة: ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك[أخرجه البخاري 7042]. والآنك أيها الإخوة هو: الرصاص المذاب من شدة الحرارة، يوم القيامة يصب في أذنه الآنك، وهو الرصاص المذاب؛ لأنه قد دخل في حديث رجلين يستسران بينهما بغير إذنهما، وهذا يبين خطورة التجسس والتصنت على أسرار المسلمين.

شروط جواز التناجي

00:14:01

ويشترط أيها الإخوة، يشترط في جواز التناجي شروط منها:

أولاً: أن تكون هناك مصلحة راجحة على مفسدة التناجي، ولذلك قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين: "باب النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة" فصار هناك شرطان لجواز التناجي:

أولاً: أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويجب أن يراعى أيها الإخوة أن لا يكون الشخص الثالث مكره، لأن بعض الناس عندما يجلس في المجلس ثلاث أشخاص يقول لصاحبه عن إذنك يا فلان، عن إذنك يا، ويتكلم مع الثاني، بدون أن يأخذ إذنه، وبدون أن يستمع إلى إذنه، بل وبدون أن يكون الشخص الثالث راضٍ؛ لأنه قد يحرج فيأذن وهو غير راضٍ، فلا بد أن يأذن الإذن الذي يدل على رضاه، لا بد أن يأذن الثالث الإذن الذي يدل على رضاه، وإلا فلا تناجي، وهذه أيها الإخوة من المسائل المخالِفة للشريعة الواقعة كثيراً المنتشرة في المجالس.

والشرط الثاني: أن يكون هناك حاجة فعلاً، أن يكون هناك حاجة، يعني: مصلحة راجحة مؤكدة تتغلب على مفسدة مشكوك بها وهي إحزانه، فإذا كانت المصلحة قوية جداً وإحزان الشخص هذا مشكوك فيه عند ذلك يجوز التناجي، هذا هو الضابط الذي ذكره العلماء.

صور التناجي المحرمة والمباحة

00:16:00

ومن هذه الصور أيها الإخوة مثلاً: أحياناً يأتيك ضيف، أنت وإياه في المجلس، فيأتي إليك ولدك أو خادمك، فتضطر أن تسر في أذن الولد أو الخادم كلاماً عن تجهيز الطعام مثلاً، أو عن تفريغ طريق مثلاً، أو أحياناً يقول لك ولدك: إن أمي تقول كذا وكذا، وفي هذه الحالة درجت مروءة الناس على عدم الجهر بهذه الأشياء أمام الضيوف، فهذه المسألة هي مصلحة راجحة تقاوم المفسدة المشكوك بها؛ لأن الضيف سيقدر أن ولدك هذا عندما تسر إليه بالكلام لن تقول كلاماً سيئاً عنه، وإنما سترتب أنت وإياه أمراً يتعلق بالضيافة، أو يتعلق بداخل أهلك، بداخل البيت، فلذلك لن يحزن، هذا مثال على التناجي الجائز، وإلا أيها الإخوة فأغلب صور التناجي الواقعة اليوم هي صور محرمة.

وكذلك لو سأل إنسان: هل يدخل في التناجي أن يتكلم اثنان بلغة ثالثة جهراً أمام ثالث لا يفهم هذه اللغة، لنفترض أن هناك ثلاثة رجال في مجلس واحد أحدهما لا يعرف اللغة الإنجليزية مثلاً، فأنت تكلمت مع صاحبك وأنت وإياه تفهمان هذه اللغة، والثالث لا يفهم اللغة، تكلمتما بصوت جهوري، بصوت مسموع، هل يدخل هذا في التناجي؟ قال العلماء: نعم يدخل ذلك في التناجي.

ومنه قول النووي رحمه الله: وفي معناه – معنى التناجي – "ما إذا تحدثا بلسان لا يفهمه؛ لأن العلة موجودة" كأنك أنت وإياه تساررتوا؛ لأن الشخص الثالث لا يفهم شيئاً، ففي هذه الحالة لا يجوز التناجي بهذه اللغة الثالثة.

أما لو كان عندك في البيت مثلاً خادم، أو سائق لا يتكلم بالعربية، فهل يكون تناجياً أن تتكلم بالعربية مع صاحبك في البيت بحضرة الخادم؟ الظاهر أن هذا لا يدخل في الحديث، لماذا؟ لأن هذا الخادم موجود في البيت أصلاً، وكلامك مع صاحبك ليس عن الخادم، ولا من أجل الإضرار به، وكذلك فإن الخادم لن يحزن في هذه الحالة، وكذلك لأن التناجي هنا في الحديث خاص بالثلاثة الموجودين في المجلس في بعض الحالات، وليس الناس الموجودين في البيت من الخدم وأصحاب البيت مثلاً، فلذلك لا حرج أن يتكلم مثلاً اثنان من أهل البيت أمام الخادم باللغة العربية وهو لا يفهمها إذا كانا لن يتكلما في شأنه أو يغتابانه مثلاً، فإنك تجد بعض الناس الآن أيها الإخوة للأسف عندما يأتي خادم مسلم قد لا يتكلم اللغة العربية، فتجد واحد يقول للثاني: انظر إلى هذا الغشيم كيف يضيف الناس، فعلاً، يقول: انظر إلى هذا الغشيم، هذا عمره ما يتعلم، ويجلس يغتاب في الرجل ويشرِّح في عرضه، وينبزه بالألقاب التي نهى الإسلام عنها والخادم أمامه، المسكين لا يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز ذلك مطلقاً.

وكذلك لو سأل إنسان فقال: هل يدخل في التناجي مثلاً عندما أكون أنا مع اثنين وأكتب لثالث، أكتب لصاحبي كتابة في ورقة، وأريه الورقة والشخص الثالث لا يفهم، لا يعلم ما هو مكتوب؟

الجواب أيها الإخوة: أن هذا داخل في التناجي قطعاً، بل ربما كانت الكتابة في الأوراق أشد من الكلام، وبعض الناس يستعمل هذا، تجد ثلاثة في مجلس واحد يتكلم مع الثاني فيقول له: بكم شريت هذه؟ أو كذا وكذا، فلكي لا يخبر الثالث يكتب هذا في ورقة ويريه الورقة، يزعم أنه قد تخلص من هذا المحظور ولم يقع فيه، والحقيقة أيها الإخوة أنه ما تخلص منه مطلقاً، بل إنه وقع في عين التناجي؛ لأن هذه الكتابة في الورقة ستحزن الشخص الثالث ولا شك في ذلك، فلو كان هناك في المجلس أكثر من ثلاثة، أربعة، أو خمسة، أو عشرة، هل يجوز أن يتناجى تسعة دون العاشر، أو يتناجى الثمانية دون التاسع؟ الجواب: كلا، بل هو ربما أشد من ذلك، يعني ذُكرت الثلاثة في الحديث لأنه أقل ما يتصور فيه التناجي، لكنه عام، لو كان في المجلس خمسة أشخاص فاجتمع أربعة على جنب يتكلمون سراً والخامس موجود، هل يعتبر هذا تناجي؟ الجواب: نعم.

وكذلك أيها الإخوة: فإنه يجوز أن يتناجى جماعة دون جماعة؛ لأنه وقع في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: فأتيته وهو في ملأ فساررته، فلو كان هنا جماعة، وجاء واحد منهم وأسر في أذنك شيئاً والبقية موجودين، فلا حرج من ذلك كما ذكرنا آنفاً.

هذه بعض الأحكام المتعلقة بالتناجي، نسأل الله أن يجنبنا وإياكم المحرمات والمنهيات، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدب بآداب نبيه محمد ﷺ.

الخطبة الثانية

00:22:47

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله القويم.

التناجي عادة سيئة بين الناس

00:22:57

أيها الإخوة: قد جرت عادات بعض الناس في مجالسهم أنهم يتناجون، أو يأتي شخص ويتكلم مع واحد والآخر موجود، وصار هذا عرفاً في بعض المجالس، ومنها وللأسف مجالس الدعاة إلى الله ، واعلموا أيها الإخوة أن هذه العادة عادة سيئة مرذولة، وكثير من الأحيان يتوهم الشخص أن فيها مصلحة، وأن المصلحة راجحة، والحقيقة أنه ليست هناك مصلحة على الإطلاق، أو قد تكون المصلحة مرجوحة، وإحزان الشخص الثالث أمر مؤكد لا شك فيه، فلذلك ينبغي ألا يلبس الإنسان على عباد الله الصالحين فيوقعهم في حبائله، فيظنون بأن بعض أنواع التناجي للمصلحة لا شيء فيها، وهي ليست كذلك، وكما ذكرنا فإن العلة هي الإحزان، فإذا انتفت العلة مطلقاً، وهذا أمر يصعب التأكد منه جداً، فإنه لا بأس من ذلك.

بل إنه في كثير من الأحيان قد يدفع الشيطان إنساناً ليسر شيئاً في أذن أخيه بحضرة أخ له ثالث موجود يحسب أن ذلك مصلحة، وقد يكون هذا خدعة من خدع الشيطان، كيف ذلك؟ قد يأتي في نفس الإنسان أيها الإخوة أحياناً، قد يأتي حب التميز عن الآخرين، فيأتي في مجموعة وفيهم واحد، فيسر إلى واحد منهم بحديث، ويأتي الجواب من ذلك الرجل، ثم يتكلم، ويأتي كلام آخر سراً، لا لأن هناك مصلحة في هذا التسار، ولكن لأن الشيطان قد لعب بنفس هذا الرجل، وأدخل فيه قضية حب التميز عن إخوانه الآخرين، فهو يحب أن يكون له أسرار، وأن تكون له قضايا خاصة، وأنها ليست بمستوى الموجودين، وأنه يتكلم مع شخص بعينه، ولا يتكلم مع الآخرين، ليبدي لهم بأنه أعلى شأناً منهم،

هذا أيها الإخوة من مداخل الشيطان على عباد الله، وفيه إدخال لحظوظ النفس، وخلط لحظوظ النفس في مصالح الدعوة إلى الله، وهذا خلط لا تقره الشريعة، ويأباه الإسلام ويدفعه بكل وسيلة؛ لأن الإسلام أيها الإخوة يحرص على وضوح شخصية الداعية إلى الله، وهذا أمر مهم جداً، لا بد أن تتصف شخصية الداعية بالوضوح التام أمام الناس، سواءً كانوا من إخوانه الخلص، أو من عامة الناس، لا بد أن يكون الوضوح هو الصفة المتميزة لهذه الشخصية، ولهذا الوضوح يا إخواني فائدة عظيمة في الدعوة إلى الله، فمن فوائده: أنه يمنع قابلية إشاعات المغرضين على نفسه، إذا كان الإنسان غير واضح، وتحيطه هالات من الغموض، فإن الناس المغرضين سيتكلمون فيه، ويقولون: انظر فلان ماذا حوله، إن أمره مريب، إن كذا وكذا، فتبدأ إشاعات المغرضين تلوكه وهو السبب؛ لأن شخصيته غير واضحة أمام الناس.

وإذا أردتم مثالاً من السيرة على أن رسول الله ﷺ كان يحرص على وضوح الشخصية أمام المجتمع بأسره، فتأمل معي يا أخي المسلم في هذه الحادثة: إنها قصة ابن أبي سرح، ابن أبي سرح صحابي جليل، أسلم وكان من كتبت الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، وصار يقول لكفار قريش: أنا كنت أكتب الوحي لمحمد، وأنا أصرفه حيث أشاء، فأمر رسول الله ﷺ بقتله، ولما فتح مكة أمّن الناس كلهم إلا أربعة منهم ابن أبي سرح هذا - رضي الله تعالى عنه – وستعرفون من القصة لماذا رضي الله تعالى عنه، قال ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول، وهو كتاب ممتاز ذو فوائد قيمة، قال: قصة ابن أبي سرح مما اتفق عليه أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك، وهذا أقوى مما رواه الواحد العدل، لما كان يوم فتح مكة، اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء حتى أوقفه على النبي ﷺ، عثمان أتى بهذا الرجل عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأوقفه أمام الرسول ﷺ بعد الفتح فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، بايع هذا الرجل، يريد الآن أن يتوب، بايعه، فرفع رأسه الرسول ﷺ فنظر إليه ثلاث مرات، ثم كل ذلك يأبى أن يبايعه، الرسول ينظر لعبد الله بن سرح ويأبى أن يبايعه ثلاث مرات، فبايعه بعد الثلاث، فلما انتهت الثلاث مرات، بايعه بعد الثلاث، فلما بايع الرسول ﷺ عبد الله بن سعد بن أبي السرح على توبته ودخوله في الإسلام مرة أخرى قال لأصحابه: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته، فيقتلهالرسول ﷺ يقول للصحابة: يا جماعة ما فيكم واحد رجل لبيب يفهم، يعقل، يستنتج من أني امتنعت عن مبايعة هذا الرجل ثلاث مرات أني لا أريد مبايعته فيقتله؛ لأن الرسول كان قد أحل دمه، قبل أن يأتي تائباً، فقال رجل من الصحابة: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ما اطلعنا على دخيلة نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، إشارة إلى أنك تريد قتله وأنك لا تريد بيعته؟ فقال رسول الله ﷺ: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين[أخرجه أبو داود 2683]. قال ابن تيمية: رواه أبو داود بإسناد صحيح، وخرجه جماعة من أهل العلم.

فالرسول ﷺ ما يريد الغموض ولا يحبه، ولا يريد حتى الوصول إلى المقصود بالإشارات الخفية، لا، يريد رسول الله ﷺ أن يكون واضحاً، وهذا أيها الإخوة من أسباب عدم قبول كفار قريش لكثير من الإشاعات التي أشاعها المنافقون واليهود عن شخصية الرسول ﷺ؛ لأن رسول الله كان واضحاً في شخصيته وضوحاً بيناً؛ لذلك يقول عبد الله بن سلام لما جاء يختبر الرسول الله ﷺ قبل أن يسلم يقول: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب؛ لأن فيه وضوح، ليس فيه مواربة، ولا أسرار، ولا غموض، فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.

فإذاً أيها الإخوة ينبغي أن يحرص الدعاة إلى الله حرصاً كبيراً جداً على وضوح شخصياتهم أمام الناس؛ لأن في ذلك أكبر الإعانة والمساعدة على تقبل دعوتهم، وعلى إبعاد ألسنة أهل السوء عنهم، ونختم هذا الموضوع بهذه الأبيات الجامعة لهذه الآداب وغيرها، قال الشاعر:

وقد خص بالصفع في الدنيا ثمانية .........................

 ثمانية يستأهلون الصفع

........................... لا لوم في واحد منهم إذا صفع
المستخف بسلطان له خطر وداخل في حديث اثنين قد جمعا
وآمر غيره في غير منزله .............................

يأمر واحد وهو ليس في منزله

.......................... وجالس مجلساً عن قدره ارتفع
ومتحف بحديث غير حافظه ...........................

واحد يحفظ حديث ويأتي ويرويه للناس

.......................... وداخل بين تطفيل بغير دُعا

متطفل على الناس وعلى ولائمهم بغير دعوة

وقارئ العلم مع من لا خلاق له ..........................

الذي يعلم الناس اللي ما يستاهلوا التعليم

...................... وطالب النصر من أعدائه جمع

واحد يطلب النصر من الأعداء.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتخلقين بأخلاق الإسلام، المتأدبين بآدابه، اللهم اجعلنا من المسلمين لك، المخبتين لك، المنيبين إليك، الأواهين، اللهم واجعلنا ممن يقيم حدود هذا القرآن، ويحل حلاله ويحرم حرامه، اللهم وانصر المجاهدين في كل مكان، وفي بلاد الأفغان، وفي فلسطين، ولبنان، اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم فشتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعلهم دائرة السوء عليهم يا رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - أخرجه مسلم 2184
2 - (سورة الأحزاب 58)
3 - أخرجه مالك 1856
4 - تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 280)
5 - تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 280)
6 - أخرجه البخاري 7042
7 - أخرجه أبو داود 2683