الخميس 10 شوّال 1445 هـ :: 18 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

عطايا الإخوان فيما بينهم


عناصر المادة
الخطبة الأولى
فضل الإعطاء والإحسان والبذل في سبيل الله
نماذج رائعة في البذل والعطاء للإخوان
أسباب العطايا عند السلف
من مزايا عطايا السلف
الخطبة الثانية
أحكام يتذكرها المسلم قبل رمضان

الخطبة الأولى

00:00:04

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله واحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فضل الإعطاء والإحسان والبذل في سبيل الله

00:00:25

فإن من علامات الإيمان: الإعطاء لله، والمنع لله، فيعطي في مرضات الله، يُعطي من يحبهم الله، ويعطي الذين يحبون الله، يعطي الفقراء والمساكين، يعطي الأرحام والجيران، ويعطي الأصدقاء والإخوان، وقال ربنا في الحديث القدسي: حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي [رواه أحمد برقم (18945)، وصححه الأرناؤوط وغيره في تحقيق المسند (32/184)]، والإفضال على الإخوان من أحب الدنيا إلى أهل الإيمان الذين كانوا مضرب المثل في العطاء.

نماذج رائعة في البذل والعطاء للإخوان

00:01:00

أهدى معاوية عائشة رضي الله عنها قلادة بثلاثمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين [سير أعلام النبلاء للذهبي (2/187)]، فلم يمنعها ما كان بينها وبينهن من غيرة الضرائر من الإنفاق عليهن، والإهداء لهن؛ لأنها أخوة الإيمان، دخل الحسن يوماً داره وإذا حلقة من إخوانه قد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها أطايب طعام، وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه، وضحك، وقال: "هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم" [اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (14/460)]، وهكذا يكون الإخوان في أعطياتهم لبعضهم البعض، ولو أن الدنيا كلها جُعلت في فم أخ من الإخوان في الله لكانت قليلة، قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني؛ فأجد طعمها في حلقي" [إحياء علوم الدين (2/174)]، وقال الحسين: "كنا نعد البخيل من يقرض أخاه" [التبصرة لابن الجوزي (2/300)]؛ يعني: لأنهم كانوا يعطون بدلاً من أن يقرضوا، وعن الأعمش: "أن خيثمة ورث مائتي ألف، فأنفقها على إخوانه" [الإخوان لابن أبي الدنيا ص (214)]، وكان بعضهم يصل إخوانه بالدراهم والدنانير حتى ربما نزع ثوبه، فيدفعه إلى بعضهم [مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص (99)]، وكان ابن المبارك رحمه الله ممن اشتهروا بأعطيات الإخوان حتى كان ينفق عليهم نفقة السفر في الحج وغيره [مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي برقم (24)]، وكان يذهب إلى طرسوسة كثيراً -وهي من ثغور المسلمين المتاخمة للروم-، فينزل في خان هناك، فكان شاب يأتيه، فيقضي حوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلاً، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، فوزن له عشرة آلاف، وحلَّفه أن لا يخبر أحداً ما عاش، ثم أُخرج هذا الشاب من السجن، وجاء لابن المبارك على عادته، وابن المبارك كان قد سرى، فلحقه على بعد مرحلتين من الرقة، فقال عبد الله: يا فتى أين كنت، لم أرك؟ قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل، فقضى ديني ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الشاب بهذا إلا بعد موت عبد الله بن المبارك رحمه الله [السير للذهبي (8/386-387)].

وهكذا كان أهل العلم، وأهل الفضل، ومنهم الإمام الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فإنه كان له جار فقير متعفف لا يسأل الناس إلحافاً، فعلم الشيخ بأنه كان تاجراً فصارت تجارته كاسدة، فهلكت أمواله، فجمع له من التجار مالاً، وأعطاه إياه، فاستقامت حاله، وكان يُعطي من حوله، وأمسك به رجل مرة يقوده في يوم بارد، فأحس الشيخ أن ثوب هذا القائد خفيف، فقال: ما هذا؟ وكيف تلبس هذا الثوب والبرد شديد كما ترى؟ ثم قال: انتظرني قليلاً، فدخل الشيخ منزله فأحضر بشتاً له، وأهداه إياه.

أسباب العطايا عند السلف

00:04:34

أسباب العطايا عند السلف كثيرة، فتارة يعطون لقلة ذات اليد والفقر، كما اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة داره التي بالسوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل الجار، فقال لأهله -هذا المشتري- ما لهؤلاء؟ قالت: يبكون لدارهم التي اشتُريت، فقال: يا غلام، اذهب فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً [تاريخ دمشق لابن عساكر (29/266)].

واحترقت دار ابن لهيعة قاضي مصر، فأعطاه الليث بن سعد -وكان من كبار المحدثين العلماء بمصر- ألف دينار [السير للذهبي (8/26)].

وصلى رجل الجمعة فرأى شخصاً في طرف الناس لم يصل معهم الصلاة، فكلمه، فقال: استر علي لدعلج -وهو أبو محمد السجستاني من أهل الحديث- عليّ خمسة ألاف، فلما رأيته أحدثت، وليس ماء أتوضأ به، فبلغ ذلك دعلجاً رحمه الله، فطلبه إلى منزله، فحلله من المال -من الخمسة آلاف-، ووصله بمثلها لكونه روَّعه، مع أنه لما رآه لم يكن ذلك بقصد منه [السير للذهبي (16/33)].

ومنهم من كان يعطي ليُعين على طاعة من حج أو عمرة، ومنهم من كان يُعطي ليفرِّغ صاحبه لطلب العلم، ويعينه عليه، قال أبو يوسف -صاحب أبي حنيفة-: "كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة -جالس أطلب عنده العلم-، فانصرفت مع أبي، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة؛ فإن أبا حنيفة خبزه مشوي -يعني: أبو حنيفة عنده مال، حاجاته مقضية، طعامه موفور، وأنت طالب مسكين ضعيف تحتاج للكسب- فلا يشغلنك الجلوس عنده -اذهب وتكسب أولاً-، قال: فقصَّرت عن كثير من الطلب، وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة يوماً، وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه، قال: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش، وطاعة والدي، فلما انصرف الناس دفع إليَّ صُرة، وقال: استمتع بها، فوجدت فيها مائة درهم، فقال: الزم الحلقة، فإذا فرغت هذه، فأعلمني، ثم كان يتعاهدني حتى استغنيت وتمولت" [تاريخ بغداد للخطيب الغدادي (14/244)].

وكان البخاري رحمه الله يتصدق كثيراً على أصحاب الحديث، وهم ما بين العشرين إلى الثلاثين في مجلسه، معه كيسه لا يفارقه، يعطيهم دون أن يشعر به أحد [السير للذهبي (12/450)].

ومن أسباب الأعطيات علاقة بين المعطى وقريب المعطي، كما لقي عبد الله بن عمر رجلاً من الأعراب بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار بعد ذلك لعبد الله بن عمر: "أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير" يعني: ما كان من حاجة لأن تعطيه كل هذا، قال عبد الله: "إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب" يعني: صديقاً لأبي، "وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه" [رواه مسلم برقم (2552)].

من مزايا عطايا السلف

00:08:17

كانوا يعطون رحمهم الله، ولكن لعطاياهم ميزات، كما أن لها أسباباً.

فمن مزايا عطاياهم الإخلاص، فهي بعيدة عن المن والأذى، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما أعطيت أحداً إلا وأنا أستقله" [الإخوان لابن أبي الدنيا ص (203)]، وكان عمران بن موسى يأتي طُعم الجعفري بالألف دينار، والألفي دينار من الذهب، ويقول: "اقسمها على إخوانك، ولا تعلمهم أنها من جهتي" [الإخوان لابن أبي الدنيا ص (208)].

قال منصور بن عمار: "دخلت على الليث خلوة فاستخرج من تحته كيساً فيها ألف دينار، وقال: يا أبي السري، لا تُعلم بها ابني؛ فتهون عليه" [السير للذهبي (8/158)].

كانت أعطياتهم رحمهم الله كثيرة تسد الحاجات، كان فيها توقير لأهل العلم والفضل، والدين والعبادة؛ ولذلك كان الوجهاء في الدين لا يمدُّون أيديهم إلى الوجهاء في الدنيا؛ لعفتهم أولاً، ثم لأنه كان في المجتمع من يغنيهم ثانياً.

قدَّم مالك بن أنس إمام دار الهجرة إلى الليث بن سعد طبقاً من رُطب، فجعل الليث فوق الطبق ألف دينار، ورده والطبق إليه [وفيات الأعيان لابن خلكان (4/131)]، كان له مجلس -أي الليث بن سعد رحمه الله- كل يوم لحوائج الناس، لا يسأله أحد شيئاً فيرده [السير للذهبي (8/150)].

وقال الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: "جاء رجل إلى الشافعي في ليلة العيد، فقال: يا أبا عبد الله، ولدت امرأتي الساعة، ولم يكن معي شيئاً، لا أستطيع أن أنفق عليها، ولا على من قام بأمرها، فأدخل الشافعي يده في جيبه، فأخرج صرة فيها ثلاثون ديناراً ذهباً، وقال: خذ هذه فأنفقها واعذرني، يعني: أنه ليس عندي أكثر منها لأعطيك" [حلية الأولياء لأبي نعيم (9/132)].

ومما تميزت به عطاياهم أن بعضها كانت عن إيثار، يعني: المعطي محتاج وهو يعطي، كما قال الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌسورة الحشر: 9، ادَّان مسروق رحمه الله ديناً ثقيلاً، وكان على أخيه خيثمة أيضاً دين ثقيل، فرزقهما الله مالاً، فذهب مسروق، فقضى دين خيثمة، وخيثمة لا يعلم، وذهب خيثمة، وقضى دين مسروق، ومسروق لا يعلم، أول ما بدأ به كل واحد منهما لما جاءه المال قضاء دين أخيه [إحياء علوم الدين (2/174)]، وهكذا كان الواحد منهم يعطي وهو مسرور، وليس يعطي وهو ممتعض.

تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله

ومن تأمل عطاياهم، وعطايا كثير من الناس اليوم وجد العجب العُجاب، اليوم شح وبخل رغم كثرة المال، وأيضاً مَنٌّ وأذى بعد الإعطاء رغم أن الله نهانا عن ذلك.

كان الذين يعطون يكفُّون وجه السائل، وكان بعضهم يرفض أن ينظر في وجه السائل إذا أعطاه؛ لئلا يرى ذله بين يديه، وكان من نزلت به حاجة في كثير من الأحيان لا يحتاج أن يتكلم.

وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عندها وخطاب

وكان الفقير منهم يتمنى مساعدة إخوانه، وربما آثر الفقير فقيراً آخر، والفقير يؤثر آخر، وهكذا يدور بين الحي حتى يرجع إلى المعطي الأول، وكان الفقير يتمنى أن يكون عنده ما يُعطيه، قال الله تعالى: وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ سورة التوبة: 92، فهؤلاء يتمنون الصدقة، ولكن ليس عندهم؛ فيبكون وتسح عيونهم دمعاً من الحزن؛ لأنهم لا يجدون ما يعطونه في سبيل الله، ولذلك يؤجر هؤلاء، إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً، ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر  [رواه البخاري برقم (2839)].

يمر أحدهم بشيء من منشآت الخير، أو بيت من بيوت الله، فيقول: يا ليتني كنت موسراً؛ فأبني مثله فأفوز فوزاً عظيماً، فهذا إذا صدق في أمنيته؛ فهو والذي بنى هذا المسجد سواء.

وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُسورة الأنعام: 36، ثم يكون الوقوف عنده، فمن كان قد يسَّر حاجات الناس يسر الله عليه، ومن قضى حاجات الناس أجازه الله على الصراط يوم تزل الأقدام.

اللهم اجعلنا ممن يُعطي من أجلك، ويمنع من أجلك.

اللهم ارزقنا حبك، وحب من تحب، وحب كل عمل يقربنا إليك.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:13:33

الحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، مالك الملك، خالق السماوات والأرضين، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل رب العالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وأزواجه وخلفائه، وذريته الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله: هذا شهر شعبان على وشك الرحيل، ورمضان على وشك القدوم، وقد أظلنا ضيف كريم، وشهر عظيم، ومن علامات الإيمان الاشتياق إلى رمضان، فماذا أعددت يا عبد الله لهذا الشهر؟.

أحكام يتذكرها المسلم قبل رمضان

00:14:32

وأنت تودِّع شعبان فلتتذكر أحكاماً مهمة، من ذلك:

1- أن هذا الشهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله، والرفع أنواع:

أ‌- رفع يومي: ترفع الأعمال إلى الله في صلاة الصبح، وصلاة العصر.

ب‌- رفع أسبوعي: ترفع الأعمال إلى الله تعالى يوم الاثنين، ويوم الخميس.

ت‌- رفع سنوي: وهو رفع الأعمال إلى الله في شهر شعبان من بين أشهر العام.

ث‌- رفع عُمري: إذا مات الإنسان طويت صحيفته، ورفعت إلى رب العالمين.

فهذا شهر عظيم يغفل الناس فيه عن الطاعة، يقع بين رجب الحرام، ورمضان المعظم المبارك، فشهر شعبان كان عند السلف شهر القُرَّاء؛ فإنهم كانوا يكثرون القراءة فيه من القرآن استعداداً لرمضان، ويكثرون فيه الصيام تعوداً واستعداداً لرمضان.

وقد قال نبينا ﷺ: لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه رواه البخاري ومسلم [رواه البخاري برقم (1914)، ومسلم برقم (1082)، واللفظ له]، فحكم صيام آخر يومين من شعبان على ثلاثة أحوال:

الأول: أن يصومه بنية رمضانية احتياطاً لرمضان، وهذا منهي عنه.

الثاني: أن يصومه لصوم وجب عليه كنذر، أو قضاء من رمضان الماضي، أو كفارة، وهذا جائز، بل قد يجب.

الثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق، فهذا إذا وافق عادة للإنسان فلا حرج، وعلى سبيل المثال: يوم الخميس القادم ربما يكون آخر يوم من شعبان، أو اليوم قبل الأخير، فهل يجوز صيامه؟ الجواب: إذا كان لك عادة -يا عبد الله- من قبل أنك تصوم الاثنين والخميس، أو الخميس، أو تصوم يوماً وتفطر يوماً؛ فلا حرج عليك في الجري على عادتك السابقة، وأن تصومه، أما شخص لم يكن له عادة من قبل أبداً، فجاء قبل رمضان بيوم أو يومين ليصوم؛ فيقال له: قف، وتجهز لشهرك، فليس ذا وقت صيام بالنسبة لك.

لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع الإكثار من الصيام فيه كالسُنَّة القبلية بالنسبة لصلاة الفريضة، كما أن صيام ستة شوال كالسنة البعدية بالنسبة للفريضة، وبعض الناس يظنون أن توديع شعبان بأكلات متوالية يظنون ذلك أمراً محموداً، وربما يسمونها: الشعبانية، حتى وصلت عند بعض أهل الإسراف إلى استئجار صالات أو فنادق للتباهي بذلك، وهذا بذخ سخيف، وعادة سيئة؛ فليست هذه الشعبانية من دين الله في شيء، وبعضهم يصفّي المنكرات قبل رمضان، فيحرص على ختم شعبان بأكبر قدر من المعاصي، فيا لله العجب كيف يستقبل رمضان بهذا؟!.

وأما يوم الشك، وهو الثلاثون من شعبان الذي لا يُدرى إذا غُمَّ، وصار الغيم، هل هو من شعبان أو من رمضان؟ فإن صحابي رسول الله ﷺ عمار بن ياسر قد قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم ﷺ" حديث صحيح [رواه الترمذي برقم (686)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي بنفس الرقم]، وبناء على ذلك فلا يجوز أن يُصام هذا اليوم احتياطاً لرمضان، وإنما نحن ننتظر إعلان الشهر بشهود هلاله، فإن غُم علينا أكملنا شعبان ثلاثين، ولا حرج علينا البتة؛ لأن هذا ما أمرنا به رسولنا ﷺ أن نتحرى هلال رمضان، وهذا التحري يكون بالرؤية لقوله: صوموا لرؤيته[رواه البخاري برقم (1909)، ومسلم برقم (1081)]، الرؤيا بالعين، الرؤيا بالمنظار، الرؤيا في الطائرة، المهم أن يُرى بالعين، وأما الحسَّابون فإنهم مختلفون، وبعضهم ضالون يكذبون، وكم قالوا في سنوات الماضي: لا يمكن أن يُرى الهلال، ورؤي الهلال! ولذلك لا يمكن الاعتماد عليهم، ونحن أمة نسير على أدلة: صوموا لرؤيته، هذا للعامي والمثقف، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحضري والبدوي.

الشريعة قواعد للجميع ما تخص المثقفين بشيء، والمتقدمين تقنياً بشيء، الشريعة عامة للجميع:  صوموا لرؤيته.

جعل الله الأهلة مواقيت، وجعلها في السماء آيات نعرف بها انتهاء شهرنا، وبدء شهرنا، وعُدد نسائنا، وآجال ديوننا.

عباد الله: بعض الناس تحل زكاته في شعبان، فيؤخرها إلى رمضان ظناً منه أنه يؤجر أكثر، وهو في الحقيقة يأثم؛ لأن تأخير الزكاة عن وقتها -بدون عذر- حرام، ولا بد من أدائها، فإذا أخرتها ظلمت نفسك، وظلمت الفقير، ولذلك من وجبت عليه في رجب أو في شعبان فإن إخراجها في وقتها أكثر أجراً -بالتأكيد- من تأجيلها إلى رمضان.

أيها المسلمون: من كان عليه قضاء من رمضان الماضي فلابد أن يُنهيه قبل أن يأتي رمضان الجديد، فحثوا نساءكم على هذا؛ فكثير منهن عليهن من القضاء بأسباب قدَّرها الله تعالى، فإذا لم يبق على رمضان إلا عدد أيام القضاء وجب عليها أن تصوم الأيام كلها، ولا يُستأذن الزوج في ذلك، بخلاف ما لو كان بقي على رمضان فُسحة، أيام أكثر من عدد الأيام التي عليها، فإن توالى عذرها، كامرأة دخل عليها رمضان الماضي وهي حامل، فأفطرت، فتواصل الحمل، ثم وضعت، فنفست أربعين يوماً، وأرضعت حتى دخل رمضان الجديد، وهي لا تستطيع الصيام، فليس عليها إلا القضاء فقط إذا يسر الله لها ذلك بعد رمضان الجديد، ومن أخَّر لغير عذر عليه التوبة والقضاء، وإطعام مسكين عن كل يوم كفارة بالتأخير كما أفتى في ذلك عبد الله بن عباس .

اللهم علمنا ما ينفعنا، وفقهنا في الدين، وارزقنا إتباع سنة سيد المرسلين، أحينا مؤمنين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادك، ارزقنا نعمة صيام رمضان، وبلغنا شهرنا يا ربنا، اللهم أعنا فيه على ما تحب وترضى، اللهم اجعله كفارة لذنوبنا، ورفعة في درجاتنا، وزيادة في حسناتنا، وقرباناً إليك يا أرحم الراحمين، أصلح نياتنا وذرياتنا، اقض ديوننا، واستر عيوبنا، واهد ضالنا، واشف مريضنا، وارحم ميتنا، اللهم ثبت أمننا وإيماننا يا رب العالمين، ومن أراد بلدنا بسوء فامكر به، ورد كيده في نحره، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم انشر رحمتك علينا، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وارزقنا من لدنك رزقاً حسناً.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الصافات: 180-182.

1 - رواه أحمد برقم (18945)، وصححه الأرناؤوط وغيره في تحقيق المسند (32/184)
2 - سير أعلام النبلاء للذهبي (2/187)
3 - اللباب في علوم الكتاب لابن عادل (14/460)
4 - إحياء علوم الدين (2/174)
5 - التبصرة لابن الجوزي (2/300)
6 - الإخوان لابن أبي الدنيا ص (214)
7 - مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص (99)
8 - مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن لابن الجوزي برقم (24)
9 - السير للذهبي (8/386-387)
10 - تاريخ دمشق لابن عساكر (29/266)
11 - السير للذهبي (8/26)
12 - السير للذهبي (16/33)
13 - تاريخ بغداد للخطيب الغدادي (14/244)
14 - السير للذهبي (12/450)
15 - رواه مسلم برقم (2552)
16 - الإخوان لابن أبي الدنيا ص (203)
17 - الإخوان لابن أبي الدنيا ص (208)
18 - السير للذهبي (8/158)
19 - وفيات الأعيان لابن خلكان (4/131)
20 - السير للذهبي (8/150)
21 - حلية الأولياء لأبي نعيم (9/132)
22 - إحياء علوم الدين (2/174)
23 - رواه البخاري برقم (2839)
24 - رواه البخاري برقم (1914)، ومسلم برقم (1082)، واللفظ له
25 - رواه الترمذي برقم (686)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي بنفس الرقم
26 - رواه البخاري برقم (1909)، ومسلم برقم (1081)