الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

حدود المباحات


عناصر المادة
مقدمة
التعريف اللغوي والشرعي للمباح
الضوابط والقواعد الشرعية للمباح
المباح غير منحصر والحرام منحصر
كل مباح طيب وكل حرام خبيث
ما سكت عنه الشارع فهو مباح في عفو الله
الألفاظ الشرعية التي تدل على الإباحة
التخيير بين الفعل والترك
الإقرار في زمن الوحي
ضوابط خاصة في بعض أبواب المباحات
آداب تناول المباحات
قاعدة سد الذرائع في المباحات
مسألة تقييد المباح
أمثلة على تقييد المباح في الشريعة الإسلامية
مسألة الأخذ بالأحوط عند ورود الاحتمال

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة

00:00:18

أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذا المجلس، نسأل الله تعالى أن يجعله مجلساً نافعاً مباركاً، وحديثنا في تربية أنفسنا عن المباح الذي أحلّه الله ، ما هو؟ ما هي حدوده؟ كيف يتم التعامل معه؟ هل هذا المباح يمكن أن يقود إلى أمور غير شرعية؟ وكيف نمنع أنفسنا من الانزلاق في هذا الأمر، ولنعلم -رحمكم الله- أن الله ما حرّم علينا شيئاً إلا وأعطانا ما هو أطيب منه.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فإن فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأُعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سُئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها إذا حُرمت بالكلية، ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبّر حكمها رأى ذلك ظاهراً على صفحات أوامرها ونواهيها بادياً لمن نظره نافذ" [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 2/113-124].

يقول في هذا الكلام البليغ الجميل، فإذا حرّم عليهم شيئاً عوّضهم عنه بما هو خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه، كما حرّم عليهم بيع الرُّطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا، وحرّم عليهم النظر إلى المرأة الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل كالبائع والطبيب، وحرّم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة، كالمسابقة والنضال، يعني: المعينة على الجهاد، المسابقات المعينة على الجهاد، وحرّم عليهم لباس الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه، وحرّم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم، والسلم نوع من البيوع لا توجد فيه السلعة، فبماذا يعوّض عدم وجود السلعة؟ بتقديم الثمن كاملاً؛ لأنه إما أن تكون هناك سلعة وثمن، خذ وهات، سلم واستلم، وإما أن تكون السلعة موجوداً والثمن لاحقاً، هذا بيع الآجل، وإما أن يكون الثمن مسلماً والسلعة آجلة، وهذا بيع السلم وله شروط، أما لا سلعة ولا ثمن يتم عقد على لا سلعة ولا ثمن، هذا بيع الكالئ بالكالئ وهذا حرام، وحرّم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلاً، فسهُل عليهم تركه نهاراً، وحرّم عليهم الزنا وعوّضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهّل عليهم تركه -يعني ترك الزنا- غاية التسهيل، وحرّم عليهم نكاح أقاربهم -يعني المحارم-، وأباح لهم منه بنات العم والعمة، وبنات الخال والخالة، وحرّم عليهم وطء الحائض، وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء، فسهّل عليهم تركه غاية السهولة، وحرّم عليهم الكذب، وأباح لهم المعاريض -يعني التورية التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب البتة- وحرّم عليهم الخيلاء بالقول والفعل، وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة، وحرّم عليهم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وعوّضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير" فمثلاً: بقر الوحش حلال، حمار الوحش حلال، إذا ذُكي وهكذا، "وبالجملة فما حرّم عليهم خبيثاً ولا ضاراً إلا أباح لهم طيباً بإزائه هو أنفع لهم، ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه، فوسعتهم رحمته، ووسعهم تكليفه". هذا كلام نفيس للغاية لابن القيم في إعلام الموقعين، فصدق الله تعالى حيث قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا  [البقرة: 185]. "ومن تأمّل هذا هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي، وعرف حكمة الله ورحمته، وتمام نعمته على عباده فيما أباحه لهم وحرمه عليهم، وأنه لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، هو غني عنهم وعن أعمالهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمرهم بما أمرهم به إحساناً إليهم، ورحمة بهم، ولما فيه مصلحتهم، ونهاهم عما نهاهم عنه صيانة لهم وحِمية". [روضة المحبين ونزهة المشتاقين: 9].

فهذا دين الإسلام دين يسر وسهولة وسماحة واعتدال وواقعية، وقد قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا  [النساء: 28]. وقال النبي ﷺ : بُعثتُ بالحنيفية السمحة  [رواه أحمد: 22291، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 2924]. وقال:  إن الدين يُسر  [رواه البخاري: 39]. فمن وفقه الله أدرك هذا.

ومن يسر هذا الدين: توسيع المباحات على الناس، وعدم التضييق عليهم، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ  [الأعراف: 32] ،  وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  [الحج: 78].

 

التعريف اللغوي والشرعي للمباح

00:07:37

ما هو المباح؟ المباح المأذون فيه، يعرفه علماء الأصول بأنه: ما لا يُثاب فاعله، ولا يُعاقب تاركه، أو يقولون ما أذن الله بفعله وتركه، فالمباح من شاء فعله، ومن شاء تركه، بلا مدح ولا ذم، فمن شاء أكل العسل والفواكه واللحم، فمن فعل ذلك متجرّداً عن أي نية فهو مباح، لو فعل بنية الاستعانة على العبادة، فهو مستحب، فمن فعله بلا نية فهو مباح، وقد قسّم علماء الأصول الأحكام كما نعلم إلى الواجب الذي يُمدح فاعله ويُذم تاركه، وقد أمر به الشرع على سبيل الجزم، والحرام الذي يُمدح تاركه ويُذم فاعله، وقد نهى عنه الشرع على سبيل الجزم.

والمندوب المستحب: ما يُمدح فاعله ولا يُذم تاركه، وهو ما أمر به الشرع أمراً بلا جزم.

والمكروه ما يُمدح تاركه، ولا يُذم فاعله، وهو ما طلب فيه الشرع طلباً بدون جزم، والمباح ما لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم، أي فعل من أفعال المكلفين لا يخلو من هذه الأحكام الخمسة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج هذه واجبات، والشرك والقتل وأكل الربا وعقوق الوالدين وغيرها من المحرّمات، وذكر الله والتسوّك للصلاة والنوافل من المستحبات، والعطاء بالشمال والأخذ بها من المكروهات، والمأكولات والمشروبات، وأنواع الثياب، وركوب المواصلات، وغير ذلك ووسائل الاتصال الحديثة، هذه الأصل فيها الإباحة، في زماننا حصل تخليط وتلبيس عند بعض الناس، وإفراط وتفريط في باب المباحات، فمن الناس من أدخل فيها ما ليس منها -هذا مهم- من الناس من أدخل فيها ما ليس منها، ومنهم من أخرج منها ما هو منها، يعني هناك ناس يُحلّون ما حرّم الله، وناس يحرمون ما أحلّ الله، فهذان طرفان اعتديا على المباح عدواناً عظيماً بأن أدخلوا فيه ما ليس منه، أو أخرجوا منه ما هو منه.

الضوابط والقواعد الشرعية للمباح

00:10:37

فنريد أن نتعرف على ضوابط هذه المباحات؛ لأن الكلام في هذا الزمن في قضية الحلال؛ هذا مباح، لا، هذا حلال، ليس حراماً، حرام، هو مباح...، ما هي الضوابط؟ ما هي القواعد؟ ما هي الحدود التي جاءت في الشرع بشأن هذا؟ ومعرفة هذا مهم جداً.

القاعدة الأولى: الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل دليل على التحريم، أشياء، أعيان، عادات، أعراف، فالأصل فيها الإباحة حتى يدل دليل على التحريم، كل ما خلقه الله تعالى في الكون الأصل فيه الإباحة بدليل قوله تعالى:  وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ   وَسَخَّرَ لَكُمْ  يعني: من أجلكم، وهذا يفيد الإباحة؛ لأن المقام مقام امتنان، ولا يمكن أن يمنّ على عباده بشيء محرم، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .

فلو قال قائل: نريد أن نستعمل هذه النيازك التي تنزل من السماء قطعاً، الأصل الإباحة، {وَمَا فِي الْأَرْضِ}.

فلو قال: لو أتينا بتربة من المريخ؟ نقول: الحكم بسيط موجود في قوله تعالى:  وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  [الجاثية: 13]. وهذا الأصل الذي يتخرّج عليه حل الأطعمة والأشربة والنباتات والفواكه والحبوب واللحوم، وتتخرّج عليه العقود والمعاملات؛ لأن الأصل فيها الإباحة، إلا إذا جاء دليل على التحريم، كل ذي ناب من السباع، كل ذي مخلب من الطير، عقود الربا والغرر والجهالة والميسر ونحو ذلك، هذا الكلام وهذه القاعدة مهمة جداً؛ لأنها ترفع المشقة عن المكلّفين.

وعندما يقول لك: الأصل الإباحة، يعني هذا الشيء الذي أنت تسير عليه ما لم يأت دليل بالمنع، ولو كان ليس الأصل الإباحة كان لا بد أن نبحث في كل مسألة، هناك مشقة ستترتب لو كانت هذه القاعدة غير موجودة، حتى لو لم توجد: قاعدة: لا الأصل الإباحة ولا الأصل التحريم، ماذا كان سيحدث؟ سنحتاج أن نبحث في كل مسألة، أي واحد يجيب لنا نوع لحم، خضار، فواكه، ملابس، عقود، معاملات، لكن عندما يكون الأصل الإباحة، هذا فيه راحة كبيرة للمكلفين؛ لأن هذا أصل، والذي يريد أن ينقلنا عن الأصل إلى غيره يأتي بدليل فتطمئن النفوس، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في منظومته في أصول الفقه:

 والأصل في الأشياء حل وامنعِ عبادة إلا بإذن الشارع
فإن يقع في الحكم شك فارجِعِ للأصل في النوعين ثم اتَّبِـعِ

المباح غير منحصر والحرام منحصر

00:14:11

ومن القواعد: أن المباح غير منحصر، والحرام منحصر، فالشرع الحكيم ما فصّل في المباحات؛ لكثرتها، فلم يقل لنا: والبقدونس والملوخية والبامية والفاصوليا والقطن والصوف... لو عدد هذا متى ننتهي؟ ولذلك من حكمة الله أنه حصر المحرمات ولم يحصر المباح، ولذلك قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ  [الأنعام: 119].

ما قال: فصل لكم ما أحلّ لكم، فتح الأصل: الحل،  قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ  [الأنعام: 145].

فإذن، هنا ندخل في التفصيلات في المحرمات، الحمار الأهلي،  كل ذي ناب من السباع، كل ذي مخلب من الطير [رواه مسلم: 1934].

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فكل ما لم يبين الله ولا رسوله ﷺ تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله  قد فصّل لنا ما حرّم علينا، فما كان من هذه الأشياء حراماً فلا بد أن يكون تحريمه مفصّلاً، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرّمه". [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/289]. انتهى هذا كلام ابن القيم -رحمه الله- في إعلام الموقعين.

كل مباح طيب وكل حرام خبيث

00:15:46

ومن الضوابط والقواعد أيضاً: أن كل مباح فهو طيب، وكل حرام فهو خبيث، قال تعالى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا  [البقرة: 168]. حلالاً من الله طيباً، حلالاً أي من الله، طيباً أي مستطاباً في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، هل يشترط أن يكون المحرم نجساً؟ لا، فقد يكون محرماً غير نجس، مثل: الذهب على الرجال، من المطعومات طاهر وحرام، مثل السموم، ممكن تحضير السموم من مواد حلال في الأصل وهي طاهرة، فلو جاء السم على ثوبك لا يجب غسله للصلاة، لكن يحرم تناوله، ليس كل حرام التناول يكون نجساً، لكن كل حلال فهو طاهر، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]. وكل حرام فهو خبيث، وكل حلال فهو طيب، وكل ما حرّمه الشرع فهو خبيث ضار في البدن والدين، ولو تأملت مثلاً قول الله تعالى:  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ  [المائدة: 3]. إلى آخره، وكذلك قول الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  [المائدة: 90].

ستجد أن هناك محرّمات من المأكولات ومحرّمات من المشروبات، وكذلك هناك محرّمات من الملبوسات؛ كالذهب للرجال والحرير، محرمات من الأواني، مع أن الأصل فيها الإباحة، كآنية الذهب والفضة على الجنسين، والنساء ماذا أبيح لهن من الذهب والفضة؟ الحلي والملبوس، فما ليس بملبوس فلا يجوز لهن من الذهب، جوال الذهب، قلم الذهب، هذه غير ملبوسة، لكن ساعة الذهب، جائزة للنساء؛ لأنها من اللباس، نظارة الذهب، ما يُلبس حلال على النساء من الذهب، ما لا يلبس، هو من الأواني أو من الأشياء الأخرى لا يحل استعماله.

ما سكت عنه الشارع فهو مباح في عفو الله

00:18:59

ما أحلّ الله في كتابه من القواعد: أن المسكوت عنه مباح وهو في عفو الله، كما قال ﷺ:  ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً  ثم تلا هذه الآية:  وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا  [رواه الحاكم: 3419، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].

قال ابن عباس : "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذُّراً، فبعث الله تعالى نبيه ﷺ وأنزل كتابه وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، فما أحلّ الله فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا الآية: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً  [رواه أبو داود: 3800، والحاكم في المستدرك: 7113، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 3800].

وتعرف الإباحة بأشياء: نصّ الشرع عليها، رغم أن الأصل في الأشياء الإباحة، إلا أننا نجد آيات وأحاديث تؤكد هذا، مثلاً:  أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187]. لماذا نصّ عليها؟ لو قال قائل: أليس الأصل في الأشياء الإباحة؟ لماذا نص عليها؟ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ  نعم؛ لأنها كانت محرّمة ليلاً ونهاراً، إذا نام ما يجوز يقرب المرأة، حتى لو استيقظ قبل الفجر، ثم أنزل الله التخفيف قال: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ  [البقرة: 187]. إذن،  عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ  [البقرة: 187]. وكذلك قول الله تعالى:  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ  [البقرة: 275].

إذن، هذا تأكيد للأصل، وليس نقلاً عن الأصل.

الألفاظ الشرعية التي تدل على الإباحة

00:21:03

والألفاظ التي تأتي في الشرع وتدل على الإباحة: رفع الجناح، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ  [البقرة: 198]. يعني: في الحج، كانوا يتجرون في المواسم، فأكد الشرع إباحة ذلك.

من الألفاظ الشرعية: نفي الإثم والمؤاخذة: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ  [البقرة: 203].

التخيير بين الفعل والترك

00:21:27

كذلك: التخيير بين الفعل والترك، إن شئتَ فصم وإن شئتَ فأفطر [رواه البخاري: 1943، ومسلم: 1121].

لمن سأله عن الصيام في السفر، ومنها أيضاً نصوص الامتنان يعرف منها الإباحة: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ  [النحل: 80] ، وقال: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ  [النحل: 4-7].

الإقرار في زمن الوحي

00:22:11

ومنها الإقرار على الفعل في زمن الوحي، يعني إذا فعل الناس في زمن الوحي أشياء وما أنزل الله منعاً، فإن ذلك يدل على إباحتها؛ لأن الله ليس بغافل، ولا نسي، فلو كانت حراماً شيء يُفعل في زمن النبوة في زمن الوحي، ما أنزل الله فيه شيئاً إلى أن مات النبي ﷺ، هذا يدل على إباحته، هذا يسمى: الإقرار على الفعل في زمن الوحي، مثل حديث جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل" [رواه البخاري: 5208، ومسلم: 1440].

فاستدل على جواز العزل عن المرأة الحرة بإذنها، جواز العزل عن المرأة بهذا.

وقال سفيان: "لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن" [رواه مسلم: 1440].  

كذلك إقرار النبي ﷺ قول حسّان لعمر، عمر أنكر على حسان إنشاد الشعر في المسجد، قال: "كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك". [رواه البخاري: 3212].

لكن شعر الخنا والفجور والفاحشة هذا حرام، لأن هناك نصوص على تحريم الكلام الفاحش أصلاً، سواء كان شعراً أو نثراً. إذن، السكوت عن التحريم هذا يدل على الإباحة.

لو قال قائل: الكهرباء، وسائل الاتصال، مواقع شبكة إنترنت؟

نقول: كل هذه الأصل فيها الإباحة حتى تُستعمل في حرام.

ضوابط خاصة في بعض أبواب المباحات

00:23:56

وهناك ضوابط خاصة في بعض أبواب المباحات، النباتات كلها حلال إلا ما فيه مضرة كالسموم، الأشربة كلها حلال إلا ما أسكر، الحيوانات البحرية كلها حلال بلا استثناء.

وحتى لو قال قائل: سمك القرش يأكل اللحوم، نقول: نعم، وبعد ذلك قال الله : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ  [المائدة: 96]. يقول: الحديث يقول:  كل ذي ناب  وهذه فيها أنياب؟ نقول: أكمل الحديث: كل ذي ناب من السباع [رواه مسلم: 1006]. ليس  كل ذي ناب  وسكت، ويقال أيضاً في ترجيح إباحة لحم التماسيح، هذا من هذا الباب أيضاً؛ أنه وإن كان لها أنياب، لكن ليست من السباع.

عرفنا البحري، وحتى لو قال قائل: ثعبان البحر؟ نقول: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ  [المائدة: 96].

والبري جاء في كل ذي ناب من السباع، كل ذي مخلب من الطير، ولحوم الحمر الأهلية، والمستخبثات، كالحشرات وغير ذلك، والثياب الأصل فيها الإباحة إلا ما نصّ الشرع على تحريمه، فقد يكون لمكسبه الخبيث كالمغصوب، حرام على الذكور والإناث، وقد يكون لهيئة مشتملة على مفسدة، كالذي فيه تشبه بالكفار، أو تحريم لباس الرجل على المرأة، وتحريم لباس المرأة على الرجل، ما فيه صور ذوات الأرواح، لباس الفخر والخيلاء، حرام على الجنسين، ومن اللباس ما هو محرّم على الرجال دون النساء مثل الذهب والحرير، لكن استثنى منه الشارع أصبعين إلى ثلاثة وأربعة، وحرم أنواع من الأكسية النجسة، كجلود السباع، البيوع الأصل فيها الإباحة،  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ  [البقرة: 275].

حتى يأتي دليل يبين تحريم شيئٍ منها، مثل بيع المحرّمات، بيع الخمر، الميتة، المغصوب، هذا تحريم عين المبيع، أو الربا إذا جرى فيها، أو الغرر ثالثاً، مجهول العاقبة، فهذه محرمات معينة في البيوع، أشياء كثيرة ورد في الشرع تقييدات على الأصل، يعني مثلاً: المزاح، الأصل فيه الإباحة، لكن بشرط ألا يكون فيه استهزاء بالدين، ولا إيذاء الغير، ولا الكذب، ولا السخرية، ولا الغيبة، ولا الإكثار منه، ولا المزاح في الزواج والطلاق، ولا المزاح بالسلاح، ولا ما كان فيه ترويع، وهناك بالعكس أشياء محرمة وردت لها استثناءات مباحة، مثل الغيبة هي محرّمة، لكن عندما ذكر العلماء أن الغيبة جائزة في التظلّم عند القاضي أو التشكي إلى السلطان، سيذكر أشياء يكرهها الآخر، كذلك الاستعانة في تغيير المنكر، سيقول: هذا جاري أو فلان عنده كذا وكذا، في الاستفتاء ستقول أو سيقول: ظلمني، كيف آخذ حقي؟ زوجي يفعل، تحذير المسلمين ونصحهم، مثل كلام علماء الجرح والتعديل، غيبة المجاهر المستعلن بفسقه أو بدعته ليحذره الناس، وكذلك ما كان لا بد منه للتعريف، كالأعمش، والأعرج، والأحول، ونحو ذلك، والكذب هو محرّم، لكن فيه استثناءات للمباح، مثل الكذب في الحرب، الحرب خَدعة أو خُدعة [رواه البخاري: 3030، ومسلم: 1066]. في الإصلاح بين الناس، والله يا أخي هو أثنى عليك، مع أنه ما أثنى عليه، فقط للتقريب في الحياة الزوجية، فيقول كل من الطرفين للآخر من معسول القول ما قد يكون كذباً لو عرضناه على ميزان الدقة اللفظية، لكن ما يزيد الحب ويجمل الحياة بين الطرفين، وإخفاء ما يولد النفور ويثير الشقاق، فإذن، نجد استثناءات تخرج الحرام إلى مباح، جزءاً من الحرام إلى مباح، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً، أو يقول خيراً، وحديث مسلم:  ولم أسمعه يرخّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث، تعني الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها  [رواه مسلم: 2605].

عندما يبيح الشرع المعاريض، وأن:  في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب  [رواه الطبراني في الكبير: 201، وقال ابن الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح].

هذه المعاريض هي لفظ له معنى قريب يفهمه السامع، ومعنى بعيد، لكن صحيح لغة، اللغة تحتمل، موجود في اللغة، يقصده المتكلم، هذه المعاريض، وقد تكون باللفظ، وقد تكون بالإشارة والحركة والفعل، فمثلاً لما جاء شخص يسأل الإمام أحمد عن المروّذي أين هو؟ وما كان من المصلحة أن يخبر أين هو؟ والسؤال كان: هل المروذي موجود عندك؟

قال -رحمه الله-: "ليس المروذي هاهنا وما يفعل المروذي هاهنا". هو يشير إلى راحة يده، ولكن ما ينظر إليها، يقول ليس المروذي هاهنا وما يفعل المروذي هاهنا، ومضى، فالمقصود إذا صرّح معناها ليس على كفي، وما يفعل المروذي هاهنا في كفي، لكن هذه المعاريض تستخدم عند الحاجة، لكنها لا تجوز إذا كان فيها تضييع لحق، أو واحد يستعملها عند القاضي في الشهادة يستعمل التورية، ما يجوز، أو للخداع، يأتي مثلاً ببعض الغنم يضع عشرة آلاف ريال تحت رجليها ويجعلها تمر عليها ويأخذ الفلوس، وبعد ذلك يقول له قائل: بكم هذه؟ يقول له -كذباً- والله عدّت العشرة آلاف، أقسم بالله عدّت العشرة آلاف، هذا لا ينفع شيئاً، ولذلك قيدوا المعاريض بالحاجة، وبما لا يضيع فيه حق معصوم وما لا يكون فيه تدليس ولا كتمان ولا غش إلى آخره، وأبو بكر لما جاء من يسأله: من هذا؟ لا يريد أن يصرح في الهجرة في وضع الخطر والطلب، الطلب وراءهم ومن كل مكان، ليس المصلحة التصريح باسمه، قال: هادٍ يهديني الطريق، فظنوه من يدله على الطريق، وهو يقصد طريق الاستقامة والحق والإسلام والدين.

 من فوائد المباحات: الاستجمام والترويح على النفس؛ لأن الحزم والجد دائماً شاق، والإنسان ملول بطبعه، ومن حكمة الله أن جعل لنا مباحات، أباح لنا ترويحاً وترفيهاً وملذات ندفع بها السآمة والملل، وهذا معنى حديث: ساعة وساعة، لأنه جاء على قول حنظلة: نافق حنظلة، لما نرجع إلى البيت لسنا مثلما نكون عندك، معناها نحن بوجهين، معناها عندك بشيء، وإذا رجعنا إلى نسائنا وأولادنا شيء آخر، معنى هذا نفاق، فالنبي ﷺ لما سمع: "نافق حنظلة" وسأله وقال: "يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول اللهﷺ:  والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لو تدومون أربعة وعشرين ساعة على هذا،  لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم  ما كنتم بشراً، تصبحون ملائكة، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة  [رواه مسلم: 2750]. هذا الحديث الذي رواه مسلم يعني: ساعة حضور وقوة يقظة في العلم والإيمان والعبادة والذكر، وساعة استجمام وترويح عن النفس بالمباح، ومع الزوجة والأولاد وملاعبتهم وملاطفتهم وممازحتهم والمأكل والمشرب واللذة والشهوة مع الزوجة والأمة بما أباح الله، هذا المعنى، فماذا فهم بعضهم؟ مصائب، ((ساعة وساعة)) فهموها ساعة في الطاعة وساعة في المعصية، وبنوا عليها ساعة لربك وساعة لقلبك، يعني لقلبك تفسده؟ ماذا يعني الساعة التي لقلبك؟ هذه ماذا تفعل بالقلب؟ ما هو أثرها على قلبك؟ ماذا يعني قلبك؟ فظلموا أنفسهم.

وإذا جئت لواحد من العامة وقلت له: ماذا يعني ((ساعة وساعة))؟ يقول: ساعة تسمع قرآن وساعة تسمع أغاني، ساعة في رمضان وساعة في سفريات، ونعمل كذا وكذا، فإذن، صارت قضية ساعة وساعة، هذا حديث مظلوم؛ لأنه كل يستدل به على المعصية، تسويغ المعاصي، يعني عندما تنكر على واحد يقول لك: يا أخي ((ساعة وساعة)) صارت متساوية، سواء ساعة معصية وساعة معصية أيضاً، روي أن في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربعة ساعات: ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات، وإجمام للقلوب، فإذن، الساعة هذه ساعة الترويح وساعة المباحات وساعة الانبساط إلى الأهل والأولاد، يقول ابن مفلح -رحمه الله- قال في الفنون: "قال بعض المحققين، -ابن مفلح يقول: يعني نفسه- يعني ابن عقيل، لكن لا يريد أن يقول: أنا، قال: "قال بعض المحققين، ما أدري ما أقول في هؤلاء المتشدّقين في شريعة بما لا يقتضيه شرع ولا عقل، يقبّحون أكثر المباحات، ويبجّلون تاركها، حتى تارك التأهل والنكاح".

وهؤلاء قوم ظهروا في التصوف وغلوا وحرّموا ما أحل الله، "والعبرة في العقل والشرع إعطاء العقل حقه من التدبر والتفكر والاستدلال والنظر والوقار والتمسك والإعداد للعواقب، وكان يلاعب الحسن والحسين ويداعبهما، وسابق عائشة، ويداري زوجاته، ثم قال: "والعاقل إذا خلا بزوجاته وإمائه ترك العقل في زاوية وداعب ومازح وهازل ليعطي الزوجة والنفس حقهما، وإن خلا بأطفاله خرج في صورة طفل"[الآداب الشرعية: 3/239].

هو الآن عندما يخلو بطفله ويدلع له لسانه مثلاً يمد له لسانه، هذا التصرف لو فعله أمام الناس، أدلع لسانه أمامهم، سيكون سفاهة فيه، لكن لأطفاله غاية العقل، هذا أصلاً الطفل هذا صلاحه، يعني صلاحه في مداعبته وممازحته وملاطفته ومضاحكته، وإلا يصير فيه عقد نفسية .

من فوائد المباحات: أنه يمكن تحويلها إلى طاعات بنية صالحة، فمثل ما جاء في البخاري ومسلم عن معاذ، وأبي موسى -رضي الله عنهما- أنهما تذاكرا قيام الليل، فقال معاذ: "أما أنا فأنام وأقوم وأحتسب نومتي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"، قال الحافظ: يعني أنه يطلب الثواب في الراحة كما يطلبه في التعب؛ لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة حصلت الثواب" [فتح الباري لابن حجر: 8/62]. وقال النووي: "معناه أني أنام بنية القوة وإجمام النفس للعبادة وتنشيطها للطاعة، فأرجو في ذلك الأجر، كما أرجو في قومتي" يعني صلواتي. [شرح النووي على مسلم: 12/209].

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات" [مدارج السالكين: 2/20].

الآن النبي ﷺماذا فعل ليلة مزدلفة بعد العشاء؟ نام إلى الفجر، هذا ليس من عادته، لكن وراءهم أعمال، رمي الجمرة، والحلق، والنحر والطواف والسعي، مجهود فالمباح يُستعان به على الطاعة، يكون هناك أجر عظيم في هذه النومة، السحور فيه لذة للنفس، لكن فيه أجر عظيم، رأى امرأة فأتى أهله، هذا الإتيان فيه أجر عظيم، هذا فيه كف النفس عن الحرام، تنظف المرأة بيتها أو تحسن طبختها تقرباً إلى زوجها لتنشرح نفسه ويسر، من حسن التبعل هذا فيه أجر عظيم،  وفي بضع أحدكم صدقة  [رواه مسلم: 1006].

هنا نحتاج إلى آداب لتناول المباحات؛ لأن هنا سيأتي السؤال ويقال: أنت ترى انطلاق الناس الآن في المباحات، لا توصيهم، ما يحتاج توصية والله العظيم أخذوه وزيادة، هنا يحتاج إلى أن نضع بعض الضوابط في مسألة المباحات هذه، الآن عرفناها من ناحية التأصيل ومن ناحية الأمثلة.

آداب تناول المباحات

00:41:12

أولاً: استحضار أنها منة من الله، حتى تشكر الرب المنعم على هذا على المباح، وأنه لولا أنه أباحها لكانت حراماً، وهذا ما يدفع للشكر.

ثانياً: التوسط والتوازن في تناول المباح والانتفاع به بلا إفراط ولا تفريط، كما قال تعالى:  وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  [الأعراف: 31]. لأنه لو حصل الإسراف في هذا، أو في النوم، أو في كل شيء مباح، لو حصل هناك إسراف ينقلب إلى ضده.

ثالثاً: عدم التفاخر والتكبر على الناس؛ لأنه إذا جاء واحد قال: بناء البيوت مباح، والأثاث مباح، والأجهزة الكهربائية والستائر والفرش، ولو حصلت هناك زيادة، السيارات مباحة، سيشتري وآخر طراز، مع الوقت يمكن أن يحدث تعالي على الخلق، ولذلك قال الله:  أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ  [التكاثر: 1]. نعم في المباحات، لكن وصلت إلى حد الإلهاء، إذا صار فيها:  زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ...} [آل عمران: 14].

قال أيضاً: وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ  [الحديد: 20]. فإذا خرجت إلى قضية التباهي والتفاخر انتهى،  اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20].

هذا يصبح مذموماً.

رابعاً: لو خرجت إلى حد الإلهاء كانت مذمومة، أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ التهيتم بالمباحات حتى متم، التهيتم بالمباحات عن العبادات، وأما الذي يلهو بالمحرمات عن العبادات هذه مصيبة أخرى، لكن الآن دعونا في موضوع المباحات، إذا وصلت إلى درجة الإلهاء، أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ  [التكاثر: 1-2].

هذا دخل في حد المذموم أيضاً، قال قتادة: "كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعد من بني فلان -يعني أكثر عدداً- وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم". تفسير الطبري.

هنا أيضاً ملحظ ملهم في التوازن في استعمال المباحات، تسديد، مقاربة، لا إفراط ولا تفريط، لا إسراف، ولا تضييع ولا حرمان، وبعضهم يحرّم ويمتنع ويمنع غيره وهي مباحة، وبعضهم كان ينهى ويمنع، ثم انفجر هو مرة واحدة، يعني ما أطاق بعد ذلك ما خلّى ولا أبقى ولا ترك، ولذلك قال الله: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67]. ولذلك لما قال ﷺ: القصد القصد تبلغوا  [رواه البخاري: 6463].

القصد القصد، ليس معناها: البخل، لكن معناها: عدم التوسُّع المذموم، الالتهاء، عدم الإسراف، عدم الإغراق والانشغال،  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ  [المنافقون: 9]. التجارة حلال، لكن ماذا قال الله؟ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37]. إذن، التجارة ما تلهيهم ولا تمنعهم من الواجبات، بل ولا المستحبات، وجدنا أشياء مباحة في الأصل، لكن غشيتها المحرمات، الألعاب الإلكترونية من جهة الأصل: مباحة، لكن من رأى ماذا يوجد فيها، صور النساء، الموسيقى، الصلبان، الميسر، السحر، ألعاب فيها سحر، حتى على تعلق الأطفال بالخنازير، اللعب بالكرة الأصل فيه الإباحة، وينشط البدن، لكن حصل الآن تعصّب للأندية ومراهنات مالية، أصبحت الكرة ديناً له أركان وواجبات، لم تعد رياضة بريئة إلا عند من لا زال يستعملها بالحد الشرعي، وإلا فإن الكرة صارت الآن تعصّباً، كأنه يقول له: ما مذهبك؟ ما دينك؟ كأنها قضية دين، أنت ما دينك؟ يقول له: أنا برشلاناوي، المهم من أسماء هذه الأندية صارت مثل الدين، مثل المذهب، صارت المسألة فيها طقوس تُمارس، بعض الطقوس الكروية فيها شرك، وصلت لمرحلة الشرك، بعضهم يقلّد علامة التثليث إذا أدخل هدفاً، فما عادت رياضة بريئة، أما من أبقاها في إطارها الشرعي فهو يمارسها بالحدود الشرعية في اللباس ولا تشغل عن الصلاة ولا فيها تكسير ولا إيذاء ولا فيها مراهنات مالية إلى آخره، فهذا لا إشكال فيه، أما قضية إضاعة الأوقات في المباحات  لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه  قضية إن المباحات تكثر لدرجة قسوة القلب، هذا ملاحظ، وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ  [الحديد: 16].

قاعدة سد الذرائع في المباحات

00:48:00

وأيضاً من الأمور الخطيرة في التعامل مع المباح: أن يتمادى الواحد فيه إلى أن يصل إلى الشبهة، إلى أن يصل إلى الحرام، وهذا ما ذكره الله بقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور: 21]. فإن الشيطان قد يتدرج بالإنسان لينقله من مباح إلى أن يجعله يمارس المباح، يستقصي في المباح إلى أن يصل إلى الشبهة، وبعد ذلك يتدرج به في الشبهة إلى أن يصل إلى الحرام.

ما حكم الفيسبوك؟

جائز، الأصل الإباحة يستعمل، بعد ذلك صار فيها قبول طلبات الصداقة من الإناث، عمل طلبات صداقة من عنده هو للنساء، استعمال الخاص، وفي النهاية وقع، حديث:  ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط يقوم الداعي يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا لا تتعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، قال والصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم  رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح. [رواه أحمد: 17634، والحاكم في المستدرك: 245، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 3887].   

ولذلك كان بعض الخلفاء الراشدين يمنع من بعض المباح المؤدي، فروى شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر خلّ سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، وعمر فقيه ويعلم أن الله  أباح نساء أهل الكتاب، لكن المحصنات، فقال عمر: "لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". فأي نوع من نساء أهل الكتاب المباحة؟ المحصنات، فإذا ما كانت محصنة، وإذا صار التمادي في الزواج من نسائهم، ربما يقود إلى الوقوع في غير العفيفات؛ خصوصاً وأن وصول البنت إلى سن الثامنة عشرة بدون عشيق، وأنها لا زالت بكراً يعتبر مرض نفسي عندهم، ثم إذا كان سيتزوج عندهم ويصبح أولاده نصارى، أو تأخذ الأولاد وهو الطرف الأضعف وهي الطرف الأقوى وبحكم القانون، هذه مصيبة أخرى.

إذن، هل ممكن نقول بترك بعض المباح إذا غلب على الظن أنه يؤدي، هناك احتمال قوي أنه يؤدي، هذا من الفقه في استعمال المباح، نتكلم عن حدود المباح، هذه النقطة من دقائق الأمور، هذا ما ينبغي أن يُتفطن له، الله قال: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة: 5]. فإذا صارت المسألة خروج عن حد الإباحة، فلا بد من الامتناع، ولذلك لو طُرحت مسألة: هل يمكن أن يؤدي المباح إلى حرام؟

نقول: نعم أحياناً، أحياناً بعض الاستعمالات للمباحات قد تؤدي إلى محرّم، وهنا تأتي مسألة سد الذرائع، متى تأتينا مسألة سد الذرائع؟ الفقيه المسلم ما يستعمل سد الذرائع في كل شيء بدون سبب، لا، سد الذرائع هو أن تُغلق بعض حدود المباح، إذا غلب على الظن أنها تؤدي إلى محرّم، هذا هو، التعامل في موضوع حدود المباح، هنا الخطر، هنا الحذر، هنا الحرج، الحدود، عندما تقترب من حد الحد الذي يلي الإباحة، بعد ذلك تقع في شبهة أو حرام، هنا لا بد من الاحتياطات اللازمة، وهذا من الفقه الكبير والله، الفقه العظيم، الفقه العظيم، ولذلك: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 229]. هنا تأتي مسألة البغي، المجاوزة، ولذلك إذا أدى استعمال المباح أو الإكثار منه إلى وقوع الضرر أو الفساد أو الوقوع في الحرام، فهنا يأتي المنع، مثلاً: الصيد حكمه: حلال، لكن لو أدى التمادي في الصيد إلى إضاعة الصلوات؛ لأن فيها لهو والنفس تشتهيه وهو يتبع من طائر إلى غزال إلى أرنب إلى كذا، والوقت يمضي وخرج العصر غربت الشمس، هنا النهي، وإلا فالصيد أصلاً حلال، لكن ممكن في بعض الحالات أن يقال: قفوا هنا، إذا تماديت قد تقع في الحرام، وهناك أمور بادي الرأي قد تكون مباحة، لكن ممكن تفضي إلى حرام وهنا يكون دور الفقيه، وهنا يأتي الورع، وهنا تأتي  حساسية النفس المسلمة، وهنا تأتي قضية الاحتياط الشرعي هنا، وهنا يأتينا حديث: الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه  [رواه البخاري: 52، ومسلم: 1599]. فعندنا حلال بين واضح كالخبز، العسل، وعندنا حرام بين واضح كالخمر، والخنزير، والميتة، وعندنا مشتبهات، لا يدرك حكمها إلا العلماء، فيوجد بعض الأطعمة، فيها وفيها، ومسألة سد الذرائع لا يفهمها إلا فقيه، حتى لا يحرّم على الناس ما أباح الله لهم، ولا يتركهم يتمادون فيقعون في الحرام، هنا المعترك كبير في هذه المنطقة، هذه المنطقة تحديداً التي فيها منع الوسائل المفضية إلى المفاسد، منع المباحات المفضية إلى محرمات، هذه قضية سد الذرائع، سب أصنام الكفار، حكمه: أقل شيء أنه مباح، لماذا الله نهى عن سب أصنامهم؟ إذا كانوا يسبون الله؛ لئلا يؤدي، وإلا فهو فإن سب أصنام الكفار لا مشكلة فيه أصلاً في ذاته، فإذا كان استعمال المباح يمكن أن يؤدي إلى مفاسد، فإنه يمنع إذا غلب على الظن أنه يؤدي إلى مفاسد، إذا قوي الاحتمال بأنه يؤدي إلى مفاسد، ولسنا الآن بصدد الدخول في مسألة سد الذرائع وشرح القاعدة هذه، لكن لو كان حفر آبار في طريق المسلمين يؤدي إلى وقوع بعضهم أو هلاك بعض المسافرين، أو طرق السيارات، إلى آخره يمنع، الآن هذه قاعدة سد الذرائع لو حصل فيها أيضاً تطرف ربما نمنع حلالاً عن الناس أباحه الله لهم، ونشدد عليهم تشديداً لا يرضاه الله، ولذلك مسألة سد الذرائع التي هي منع بعض المباحات، أو بعض أجزاء من المباحات، ليس كل المباحات بعض أجزاء منها، فيها طرفان مذمومان؛ القول بإلغاء سد الذرائع كما يريد أن يفعله اليوم بعض أهل الشهوات والأهواء، يقول: هذا سد الذرائع ليس من الدين ومن أين أتيتم به؟ وهذا تضييق، وهذا تشديد، وهذا كذا، بينما هذه المسألة لها نصوص في الكتاب والسنة، مثل الآية التي مرت علينا:  وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ  [الأنعام: 108]. حكم سبّ آلهة المشركين، نُهينا عنه من باب سد الذرائع، هل هناك مشكلة أصلاً أن نسب هُبل واللات والعزى؟ بالعكس، قد يقول القائل: هذه عبادة، لكن لأنها كانت تؤدي إلى سبّ الله مُنعت؛ لا لأنها في ذاتها فيها مشكلة، لن نتوسّع في موضوع شرح قاعدة سد الذرائع، ولكن نقول: هناك طرفان مذمومان فيها طرف قال بإلغاء هذه القاعدة نهائياً، قال: سد الذرائع هذا تشديد وليس من الدين.

نقول: نصوص هذه القاعدة -قاعدة سد الذرائع- في الكتاب والسنة.

التطرف الآخر في الجانب المقابل أن يكون في سد ذرائع على أمور نسبة الوقوع فيها في الحرام ضعيفة، أو نمنع شيء ما يستعمل منه في الحرام قليل بالنسبة لما يستعمل منه في الحلال.

مثال: منع زراعة العنب سداً لذريعة استعماله في تصنيع الخمر، هذا من التطرف الآخر؛ لأن أكثر استعمالات العنب في العالم مباحة، أكلاً وشرب العصير إلى آخره، والزبيب ومصنوعات كثيرة من العنب، وفيه خمر، فهل تمنع العنب نهائياً؛ لأن هناك نسبة خمر يُصنع منه، 100% فرضنا، لا، هذا استعمال خاطئ لقاعدة سد الذرائع؛ لأن نسبة ما سيستعمل في الحرام من العنب قليلة بالنسبة للمباح، هذا في قضية الزراعة، أما في موضوع البيع، فيحرم بيع العنب على من يعلم أنه سيصنع منه خمراً، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ  [المائدة: 2].

مثال آخر لقاعدة سد الذرائع الخطأ: منع الشقق السكنية في العمائر، لماذا؟ يقول: لأننا وجدنا أنه في بعض العمائر هناك جار يفجر بزوجة جاره، وأن تلاصق الشقق والوحدات السكنية يؤدي إلى وقوع فواحش، فنريد نمنع السكن بهذه الطريقة، نعم، لكن كم النسبة؟ وبعد ذلك إذا منعت العمائر والشقق، لكن سكن عزاب وسط العوائل، نعم هذه وجهة النظر فيها قوية، منع العزاب من السكن وسط العوائل، والعلماء تكلموا عن هذا من قديم، ليس الآن؛ لأنه أيضاً يؤدي فيه إلى حرج، النسبة تقوى، قضية الاحتمال.

مسألة تقييد المباح

01:00:54

مسألة تقييد المباح، قد يحدث فيها مجاوزة، مثل ما فعل الأحبار والرهبان في بني إسرائيل من زمان، حرّموا عليهم بعض ما أحلّ الله لهم، وكانوا يطيعونهم في ذلك، فإذا أحلّوا لهم شيئاً أحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرموه، فتلك عبادتهم إياهم". وبناء على ذلك نجد ظلماً في قضية منع تعدد الزوجات في بعض البلدان، لماذا يمنعه القانون؟ هذا قانون يمنع ما أحلّ الله، هذا شيء مباح، لماذا يمنع؟ فهذا تطبيق جائر، وهذا عدوان على المباحات، وما تجد في الغالب موضوعاً مثل هذا إلا وفي مقابله فجور أو حرام، فمثلاً: يحرّمون تعدد الزوجات، ويبيحون الزنا أنه إذا تراضيا برضاهما لا شيء، قضية منع النبي ﷺ ادخار لحوم الأضاحي، لماذا قال  إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفُت  الذين هم الأعراب الذين وفدوا المدينة أصحاب الحاجة،  فكلوا وادخروا وتصدقوا  [رواه مسلم: 1971].

بعد ذلك أباح لهم، عندما انتهت الحاجة، ادخار لحوم الأضاحي أصلاً حلال، لكن كان منعهم لحاجة نزلت بالمسلمين مجاعة أو حاجة عامة، لكن بعدما أغنى الله المسلمين سمح لهم.

أمثلة على تقييد المباح في الشريعة الإسلامية

01:02:47

وفي المقابل أمثلة صحيحة على تقييد المباح، منع إقامة مصانع في الأحياء السكنية، الأصل أن إقامة المصانع مباح، لكن يكون منع إقامة المصانع في الأحياء السكنية وجيهاً؛ لأن هناك إيذاء للناس والسكان بالتلوث، ويُمنع تحويل أراضٍ زراعية إلى أراضٍ سكنية؛ لأنه قد يضر بأقوات الناس وأغذية المسلمين، كذلك يمكن أن تُمنع مثلاً بعض البسطات في الرصيف؛ لأنها تضيق على المارة مثلاً، فإذاً منع المباح أو تقييد المباح، يجب أن يكون لمصلحة المسلمين وليس بالهوى، ولهذا وضع العلماء شروطاً منها :

أولاً : لا يجوز منع جنس المباح، وإنما يكون تقييد وليس منعاً.

ثانياً: لا بد أن يكون لمصلحة المسلمين العامة ولمصلحة راجحة، وليست لعارض يسير وإلا فالمصلحة ضيقة تمنع ما أباح الله.

ثالثاً: أن تكون الحاجة حقيقية وليست مفتعلة.

رابعاً: ألا يكون هناك طريق آخر لتلافي المحذور، يعني لو وجد طريق آخر ما نمنع المباح.

أحياناً يذهب بعضهم إلى تقييد مباح لمفسدة وهمية، مثلاً يقولون نمنع زواج البنت أقل من ثمانية عشر عاماً، لماذا؟

قال: لأنها قد لا تحسن التصرف، نقول:  كم نسبة هذا؟ وهذا المنع سيؤدي في المقابل إلى ماذا من الحرام والفساد؟ فمثل هذه مفسدة وهمية لا يجوز لأجلها منع المباح، الله أباح النكاح، والبنت إذا بلغت انتهينا، هذه امرأة بالغة، ويجوز العقد عليها وهي قبل ذلك، ولكن لا يطأها إلا إذا أطاقت، أما إذا كان الوطء يضرها فلا يجوز، لا ضرر ولا ضرار، بعضهم يمنع المباح، ممكن ما يمنعه عن الآخرين، لكن هو يمتنع عنه هو يقول أنا أتدين أتقرب إلى الله بالامتناع عنه، لماذا يا رجل؟ يقول لأنني لا أطيق شكر هذه النعمة، فقيل للحسن البصري: إن رجلاً يقول: لا آكل الخبيص، الخبيص نوع من الحلوى؛ لأنني لا أقوم بشكره، فقال الحسن البصري -رحمه الله-: "هذا رجل أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟" فإذن، شخص منع المباح بحجة ألا يقوم بشكره أن هذا قال الحسن عنه: رجل أحمق.

قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ومما يعيبون -يعني هؤلاء أصحاب التحريمات غير الشرعية- يعيبون به تفسح العلماء في بعض المباحات التي يتقوون بها على دراسة العلم، ولو فهموا معنى المباح لعلموا أنه لا يُذم فاعله، وليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون كما قال يونس بن ميسرة، أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تُصب بها سواء، وأن يكون ذامك ومادحك في الحق سواء"[تلبيس إبليس: 142].

مسألة الأخذ بالأحوط عند ورود الاحتمال

01:06:50

ومثل هذا الكلام في موضوع سد الذرائع أيضاً في قضية الاحتياطات، فإن الاحتياطات منه ما هو حسن.

مثل: إذا قويت قوي الاحتمال في حصول المحرّم، فالآن الشريعة لما منعت الصائم من الحجامة، معلوم أن هناك خلاف ذكره العلماء في موضوع الحجامة، من الذي أفطر، الحاجم والمحجوم؟ أو أحدهما فقط، أو منسوخ، أو... قالوا: إن ترك الحجامة أفضل احتياطاً، لو أجّلها إلى الليل لا شك أنه أحوط في الدين، وأن هذا احتياط جيد، هذا احتياط حسن، لكن لو قال قائل: نصوم يوم الشك احتياطاً؟ نقول: هذا احتياط غير مشروع، وهذه بدعة في الدين، ولو كانت صحيحة لفعلها من هو خير منا، رسول الله ﷺ، ولكن قال عمار: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم ﷺ" [رواه البخاري: 3/27]. فهذا احتياط غير صحيح؛ لأن عندنا قاعدة:  صوموا لرؤيته وأفطروا، فإن غُمّ عليكم ما قال احتاطوا،  فإن غُمّ عليكم ما قال احتاطوا، فإن غُمّ عليكم  قال: أكملوا عدة شعبان  [رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081]. فهذا من الغلو في الاحتياط في المقابل.

فإذن، نرى بأن المباح الذي أباحه الله لا يجوز لأحد أن يحرمه عليهم، وذكرنا الآن تعريف المباح وأمثلة عليه وضوابط له، واستعمالات خاطئة للمباح، وأخيراً مسألة سد الذرائع والاحتياط وعلاقتها بالمباح وما هو الصحيح منها، أو الصحيح منها والباطل، نسأل الله أن يفقّهنا في ديننا، وأن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأن يعتق من النار رقابنا، وأن يدخلنا الجنة بمنه وكرمه وفضله ورحمته، ونسأله -عز وجل- أن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، إنه سميع مجيب قريب.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.