الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مواقف رائعة في التأثير الدعوي


عناصر المادة
الخطبة الأولى
النبي ﷺ مع عدي بن حاتم
إسلام عمرو بن الجموح
توبة زاذان
توبة حبيب العجمي
الخطبة الثانية
سفيان الثوري مع شاب
توبة القعنبي

الخطبة الأولى

00:00:05
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102،
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء:1،
 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا الأحزاب:70 - 71.
أما بعد:
فقد قال الله -تعالى-: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النحل:125، وقام النبي ﷺ يدعو قومه إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الكفار بالتي هي أحسن، وكذلك سار السلف -رحمهم الله- على هذا الطريق.
والمطلوب منا -عباد الله- أن نسير نحن كذلك، ونحن مقبلون على شهر رمضان، وهو فرصة عظيمة للتوبة إلى الله -تعالى-، والرجوع إليه، والتوبة واجبة قبل الشهر وبعده.
ألم تر أن المصلي إذا سلم من صلاته مع أنه قد خرج لتوه من عبادة واتصال بالله يقول: استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله، وكذلك كان النبي ﷺ يستغفر ربه ويتوب إليه بعد عدد من العبادات.
عباد الله: 
إن التأمل في سيرة السلف -رحمهم الله- في الدعوة إلى الله يعلمنا دروساً في كيفية الدعوة ومنهجها، ونحن مطالبون بانتهاز الفرص التي ترق فيها قلوب الناس؛ لأجل دعوتهم، ولنعرض بعض الأمثلة من النبي ﷺ والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم في هذا الموضوع.

النبي ﷺ مع عدي بن حاتم

00:03:16
الحكمة في الدعوة إلى الله ، والمشاركة في ذلك، وتقديم المجهود، روى الترمذي -رحمه الله تعالى- وهو حديث حسن، عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد -وكان عدي رجلاً نصرانياً- جاء كافراً إلى النبي ﷺ وكان قد هرب من المسلمين الذين غزوا قومه، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، فكان النبي ﷺ يرجو هدايته إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، قال: فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما. 
فرأى ذلك الرجل وكان على الشرك نبي الله ﷺ يقضي حاجة امرأة وصبي وهو النبي، وقائد الأمة، وعظيم الناس بهذا الخلق والتواضع، ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، أخذه إلى بيته، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما يفرك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: قلت: لا، قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تفر أن تقول: الله أكبر وتعلم شيئاً أكبر من الله؟ قال: قلت: لا، قال: فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال، قال: قلت: فإني حنيف مسلم، فرأيت وجهه تبسط فرحاً، 
دخل الرجل في الإسلام، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار، جعلت أغشاه طرفي النهار، فكان هذا الرجل عند صحابي في بيته يرى أخلاق المسلمين، وحياة المسلمين، ويأتي يومياً إلى النبي ﷺ ليزيد إيمانه.
وقد روى قصة إسلامه أيضاً الإمام أحمد -رحمه الله- بإسناد قوي عن أبي عبيدة بن حذيفة قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه، ثم أتيته فسألته فقال: بعث النبي ﷺ فكرهته- ثم كنت بأرض الروم- لجأ إليهم- فقلت: لو أتيت هذا الرجل فإن كان صادقاً تبعته، فلما قدمت المدينة استشرفني الناس، فقال لي: يا عدي أسلم تسلم، قلت: إن لي دينا، قال: أنا أعلم بدينك منك، ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى، قال: ألست ركوسيا وهذه ديانة نصرانية مشربة بمذهب الصابئة، دين بين النصارى والصابئين، فأخبره النبي ﷺ بالتحديد بالديانة التي ينتسب إليها. 
ألست ركوسياً تأكل المرباع، وكانوا في الجاهلية يعطون رئيس القبيلة ربع المغانم التي يأخذونها من غزواتهم واعتداءاتهم، قلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك.
كان النبي ﷺ يعلم أنه حتى في دين الرجل المحرف لا يجوز ذلك، فلما سمع عدي هذا قال: فتضعضعت لذلك، انكشف شيء من ضعفه وخطئه، ثم قال: يا عدي أسلم تسلم، فأظن مما يمنعك أن تسلم خصاصة تراها بمن حولي، ترى بنا شيئاً من الفاقة، والفقر، والحاجة، لا ترانا أغنياء، لا ترانا رؤوساً بين الناس مسلطين على الجميع، والناس يعادوننا من حولنا، هذا مما يمنعك أن تدخل في الدين، وأنك ترى الناس علينا إلباً واحدة، أي: مجتمعين- هل أتيت الحيرة؟ قلت: لم آتها، وقد علمت مكانها، قال: توشك الظعينة أن ترتحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت ولتفتحن علينا كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كِسْرَى بْنُ هُرْمُز، وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة، قال عدي : فلقد رأيت اثنتين وأحلف بالله لتجيئن الثالثة، يعني: فيض المال، وكان ذلك بعد وفاة النبي ﷺ، هكذا فعل النبي ﷺ مع هذا الرجل حتى أسلم.

إسلام عمرو بن الجموح

00:10:35
أما عمرو بن الجموح وكان من سادة الأنصار في الجاهلية، فإن عكرمة قال: قدم مصعب بن عمير المدينة يعلم الناس، فبعث إليه عمرو بن الجموح ما هذا الذي جئتمونا؟ يا أيها الوافد الجديد، يا من تزعم الدعوة، بماذا أتيت؟ ما هي الأشياء الجديدة؟ قالوا: إن شئت جئناك فأسمعناك القرآن، قال: نعم، فقرأ صدراً من سورة يوسف فقال عمرو: إن لنا مؤامرة في قومنا، يعني نؤامر ونستشير وكان سيد بني سلمة، فخرجوا ودخل على مناف.
دخل هذا الرجل المشرك كان دخل على مناف، وهو الصنم، فقال: يا مناف تعلم والله ما يريد القوم غيرك يريدون كسرك، يريدون إتلافك فهل عندك من نكير، فقلده السيف، وخرج فقام أهله فأخذوا السيف، أخذوا السيف من الصنم دون أن يعلم عمرو بن الجموح، وكانوا قد أسلموا، فلما رجع قال: أين السيف يا مناف، ويحك إن العنز لتمنع وستها، والله ما أرى في أبي جعار غداً من خير، ثم قال لهم: إني ذاهب إلى مالي فاستوصوا بمناف خيراً، فذهب فأخذوه فكسروه وربطوه مع كلب ميت وألقوه في بئر، فلما جاء قال: كيف أنتم؟ قالوا: بخير يا سيدنا طهر الله بيوتنا من الرجس، قال: والله إني أراكم قد أسأتم خلافتي في مناف، قالوا: هو ذاك انظر إليه في ذلك البئر، فأشرف فرآه فبعث إلى قومه فجاءوا فقال: ألستم على ما أنا عليه؟ قالوا: بلى، قال: فأشهدكم أني قد آمنت بما أنزل على محمد ﷺ. 
وهكذا أسلم عمرو بن الجموح -رضي الله تعالى عنه-، وهكذا حصل من الخطة من المسلمين في إظهار ضعف المعبودات الجاهلية، وأزروا عليها في نفوس عابديها، وبينوا أنها لا تغني شيئا.
ثم سار السلف -رحمهم الله تعالى- في طريق الدعوة حاملين لواءها، مشتغلين بالوعظ والإرشاد، لما دخل الناس في دين الإسلام صاروا بحاجة إلى تذكير ووعظ؛ لأن فيهم الفاسق والضال ومرتكب الكبائر والبعيد عن الله، ومع ذلك استمر مشوار الدعوة. 

توبة زاذان

00:13:56
كان زاذان يشرب المسكر، ويضرب بالطنبور، وهو آلة لهو، ثم رزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود فصار زاذان من خيار التابعين، وأحد العلماء الكبار، ومن مشاهير العباد والزهاد، وهذه قصته يرويها بنفسه، قال: كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور- يعني فنان، موسيقي، موسيقار، مغني- فكنت مع صاحب لي، وعندنا نبيّذ مسكر، -شراب مسكر- عندنا نبيذ وأنا أغنيهم كاس وطاس، غناء وشرب، فمر ابن مسعود فدخل، علم أن هناك شيئاً، فرأى المنكر أمامه فضرب الباطية، وهي إناء الخمر فبددها، وكسر الطنبور، ثم قال: "لو كان مل يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت"، لو كان هذا الصوت الحسن، هذه الموهبة تستغل في الطاعة لكنت رجلاً عظيماً، بدلاً من الغناء اقرأ القرآن، حول مجال جمال الصوت إلى كتاب الله ثم مضى.
كلمة واحدة فقط "لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت" ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود، فألقيت في نفسي التوبة، فسعيت أبكي، وأخذت بثوبه -لحقه- فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، أجلس، ثم دخل وأخرج إليه تمراً -أكرمه به- وأجلسه واستقبله أحسن استقبال.
وهكذا بركة الصدق في الدعوة، وحسن نية الداعية، وحسن سيرته، وجرأته في الحق، وهكذا وفقه الله، ففتح له مغاليق هذا القلب، قلب ذلك الشاب الضال البعيد عن الله -تعالى-. 
لقد ضرب ابن مسعود مثالاً رائعاً في الشجاعة، والإقدام، والصدع بالحق، وكان معظماً لحرمات الله -تعالى-، ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
عباد الله: عبارة عظيمة "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء"، كل الناس يخافونه ويهابونه، "ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء"، فصار هو الذي يخشى ويخاف من كل شيء، التسديد والتوجيه للمواهب والقدرات، ووضعها في محلها الملائم شرعا، ذلك هو البديل المناسب الذي دل على فقه ابن مسعود -رحمه الله ورضي عنه وأرضاه-.

توبة حبيب العجمي

00:17:46
كان حبيب الأعجمي من ساكني البصرة، وكان من أهل التجارة والأموال حتى حضر مجلساً للحسن البصري -رحمه الله-، وسمع موعظته، فوقعت موعظته من قلبه، فصار من أفضل زهاد أهل البصرة، ما هي القصة بالتفصيل؟ 
كان الحسن البصري يجلس في مجلسه الذي يذكر فيه كل يوم، وكان حبيب العجمي -رحمه الله- يجلس في مجلسه الذي يأتيه أهل الدنيا والتجارة، وهو غافل عما فيه الحسن لا يلتفت إلى شيء من مقالته، هذا في الوعظ، وهذا في الأموال، وهذا في حديث الدنيا، وهذا في حديث الآخرة، الحسن فيها والآخر في الوادي الآخر، إلى أن التفت يوماً فسأل عما يقوله الحسن البصري، قال: هذا الشخص الذي تجمع حوله الناس ماذا يقول؟ فقيل له: يذكر الجنة ويذكر النار، ويرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا، فوقر ذلك في قلبه، فقال: اذهبوا بنا إليه، فأتاهم، فقال جلساء الحسن: يا أبا سعيد هذا حبيب قد أقبل إليك فعظه، انتهز الفرصة، الرجل جاء، بدأ المشوار، أحسن الاستقبال، وجود العظة، وأقبل عليه، فأقبل عليه الحسن، فذكره الجنة، وخوفه النار، ورغبه في الخير، وزهده في الدنيا، فتأثر حبيب بتلك الموعظة، وتصدق بأربعين ألفاً، وقنع باليسير، وعبد الله -تعالى- حتى أتاه اليقين.
إذاً المشتغلون بالدنيا، المشتغلون بالأموال إلى أي شيء يحتاجون؟ حاجتهم إلى التذكير بالدار الآخرة شديدة، حاجتهم إلى التذكير بتفاهة الدنيا وزوالها أمر مهم، الجنة والنار وهكذا حصل التذكير والوعظ حتى قام الرجل وتصدق بأربعين ألفاً، وزهد في الدنيا، وذهب يعبد الله تعالى حتى أتاه اليقين وهو الموت.
أيها المسلمون: هكذا يكون الصدق، ربما يخرج الكلام نفسه من رجل ولا يؤثر، ويخرج من آخر ويفتح الله له مغاليق القلوب، والسبب ما هو؟ الصدق في نفس الداعية، صادق مع الله، صادق مع نفسه، صادق مع الناس، ولذلك يفتح الله له القلوب.
نسأل الله أن يجعلنا من القائمين بدينه، الداعين إلى سبيله، وأن يكتب لنا الأجر العظيم بدعوة الناس إلى سبيله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:21:10
الحمد لله على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً رسول الله الداعي إلى سبيله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
إن الاشتغال بالدعوة إلى الله فرض لا بد من القيام به، كيف وقد عمت المنكرات، وزاد الناس عن الله بعدا؟ فكيف يرجعون؟ وكيف يتوبون إذا لم يعمل الدعاة المخلصون، ويستشعروا المسؤولية في القيام بالواجب؟

فإن الثغرات كثيرة، والمجالات مفتوحة، والمسألة تحتاج إلى نشاط وجد، ونحن مقبلون على شهر تنفتح فيه القلوب، ومجال التأثير والتأثر فيه عظيم وواسع.

فإن الثغرات كثيرة، والمجالات مفتوحة، والمسألة تحتاج إلى نشاط وجد، ونحن مقبلون على شهر تنفتح فيه القلوب، ومجال التأثير والتأثر فيه عظيم وواسع.

سفيان الثوري مع شاب

00:22:21
ساق أبو نعيم -رحمه الله تعالى- في الحلية بسنده إلى إبراهيم بن سليمان الزيات، قال: كنا عند سفيان الثوري فجاءت امرأة، فشكت ابنها، وقالت: يا أبا عبد الله أجيئك به تعظه، ولدي أرهقني، أتعبني، آلم قلبي، ولدي ضال، ولدي منحرف، المرأة تأتي إلى الشيخ تقول: يا أبا عبد الله أجيئك به تعظه، قال: نعم جيئي به، لا يتردد أبداً في قبول المهمة، كيف وفيها من الأجر أنه لو هداه الله على يديه يكون له مثل أجر أعماله ما عاش، جيئي به، فجاءت به، فوعظه سفيان بما شاء الله، فانصرف الفتى، فعادت المرأة بعدما شاء الله، بعد حين من الوقت، فقالت: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله، وذكرت بعض ما تحب من أمر ابنها، ثم جاءت بعد حين فقالت: يا أبا عبد الله ابني ما ينام، ويصوم النهار، المسألة زادت في الطرف المقابل، ولا يأكل، ولا يشرب، فقال: ويحك مم ذاك؟ ما الذي أشغله عن الأكل والشرب؟ قالت: يطلب الحديث، اشتغل بطلب الحديث، وتتبع العلماء، والأخذ من أفواه المشايخ، والحرص على الأسانيد، والذهاب من مكان إلى آخر، والسهر على المحابر والدفاتر.
قالت: يطلب الحديث، قال: احتسبيه عند الله، ما دام قد دخل في طلب الحديث احتسبيه عند الله، اتركيه الآن وشأنه، وعلم سفيان وهو من كبار المحدثين أن للحديث لذة، وأن الشاب إذا توجه في هذا الطريق احتسبيه عند الله، تنساه إذاً مادام قد دخل في طلب العلم فإنه سيأخذ بلبه، ويشغله عن كل شيء.
لقد تواضع سفيان للمرأة وقال: هاتيه، وهو من هو؟ أمير المؤمنين في الحديث، الشيخ العظيم في حلقة فيها أعداد عظيمة من الطلبة، ومع ذلك يقول: هات فاسق لأعظه، وتواضع له، ووعظه، وهكذا كان الأثر.

توبة القعنبي

00:25:40
ولقد جاء القعنبي إلى شعبة فاهتدى على يده من حديث واحد، القعنبي من كبار علماء الحديث لم يسمع من شعبة إلا حديث واحد، فما هو؟ وكيف القصة؟ يقول ولد القعنبي بالبصرة:
كان أبي يشرب النبيذ المسكر، ويصحب الأحداث، يصحب السفهاء، شلة السوء، يصحب الأحداث، فدعاهم يوماً، وقد قعد على الباب ينتظرهم، ينتظر رفقاء السوء إلى مجلس السوء، فمر شعبة على دابته، وشعبة أمير المؤمنين في الحديث أيضا، جبل من جبال الحفظ، فمر شعبة على دابته والناس خلفه يهرعون، يريدون السؤال والكتابة، فلفت نظر الغلام هذا المشهد، عالم يتبعه الناس، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة، قال: وأيش شعبة؟ وهكذا دأب السفهاء إذا رأوا العلماء والدعاة وطلبة العلم، أيش فلان؟ لا يلقبه بلفظ، ولا يقول: الشيخ فلان، لا احترام ولا تقدير، قال: وأيش شعبة؟ قالوا: محدث، فقام إليه، وعليه إزار أحمر، ومعلوم نهي النبي ﷺ أن يلبس الذكور أحمر خالصاً في ثيابهم، فقام إليه وعليه إزار أحمر فقال له: حدثني، ما دمت محدث هات حديث من الأحاديث التي عندك، حدثني، فقال له شعبة -رحمه الله-: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك، لا السيما سيماهم، ولا المنظر منظرهم، ولا الهيئة هيئتهم، لست من أهل الحديث حتى أحدثك.
وكانوا يجلون أن يجعلوا العلم في السفهاء، يكرمون حديث النبي ﷺ، أن يحدثوا به ليدخل في السند وفي سلسلة السند رجل مثل هذا، فأشهر سكينه، السفيه أشهر السكين وهكذا دأبهم مع الناصح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، التبجح، وإظهار العضلات، هكذا دأبهم إلى هذا اليوم، إظهار البطش، والقوة بالآمر الناهي، وتحدي الناصح.
فأشهر سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن أبي مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
انظروا الآن إلى انتقاء الأحاديث، انتقى الحديث المناسب لهذا الفاسق: إذا لم تستح فاصنع ما شئت فلما سمع ذلك من قلب مخلص -وهذا هو المهم- رمى سكينه ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فهرقه وسكبه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون فأدخليهم، وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا، وأن الولد تغير، وصاحبهم تبدل. 
ومضى من وقته إلى المدينة، فلزم مالك بن أنس -رحمه الله- إمام دار الهجرة، لزمه فأثر عنه، وأخذ أحاديث، ثم رجع إلى البصرة القعنبي وقد مات شعبة، فما سمع منه غير ذلك الحديث.
عباد الله: هكذا يكون الدعاة إلى الله -تعالى- يعرفون مذاهب الناس، ومذاهب أهل الباطل فيجادلونهم، ويكرمون الناس فيأتون بهم إلى بيوتهم، ويضيفونهم ليشهدوا معالم الحياة الإسلامية، وهكذا يكون الدعاة إلى الله في جرأتهم بالحق، وأخذهم لأصحاب المنكر، وهكذا يكونون في تواضعهم ووعظهم، وقبول المرأة، وقبول الدعوة، قبول الشخص الذي جاء إلى المجلس، وهكذا يكونون في التزهيد، هكذا يكونون في أعمال القلوب، هكذا يكونون في الوعظ، وهكذا يكونون في انتقاء المناسب، وهكذا يكونون في إجلال العلم، وهكذا يكونون في توجيه الناس، توجيه الطاقات إلى المجال المناسب شرعاً.
فهذه دروس بليغة من حياة السلف الصالح -رحمهم الله تعالى-.
الواجب أن نتأسى بهم ونحن كما قلت -إخواني-: مقبلون على أيام فضيلة في شعبان، وفي رمضان فلتكن إذاً المجهودات متوجهة للدعوة إلى الله، ونصح الناس، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
اللهم إنا نسألك العون على طاعتك، أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم بارك لنا في شعبان، وبلغنا رمضان، وتقبل منا يا أرحم الراحمين، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، واغفر ذنوبنا، واغسل حوبتنا، وطهرنا يا أرحم الراحمين، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الصافات:180-182.