السبت 12 شوّال 1445 هـ :: 20 أبريل 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

الآثار النفسية والاجتماعية للأزمة المالية


عناصر المادة
الخطبة الأولى
من أسباب المصائب ما كسبت أيدي الناس
الآثار النفسية للأزمة المالية
علاجات الأزمة المالية
الخطبة الثانية
تعامل مع الأزمات بحكمة
ما عند الله خير وأبقى

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

من أسباب المصائب ما كسبت أيدي الناس

00:00:29

فإن الدنيا بنيت على الكدر والنقص، ميز الله بين نعيمها ونعيم الجنة بذلك، فنعيم الجنة دائم غير منغص، ونعيم الدنيا ناقص ومنغص، قال في الابتلاءات التي يصيب بها عباده في هذه الحياة: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَسورة البقرة: 155، وبعض هذه المصائب -عباد الله، أيها الأحبة- تصيب الناس بقضاء من الله مباشر كالآفات السماوية والزلازل، والأعاصير والطوفانات، وبعضها يكونون هم سبباً في صنعها بقدر من الله تعالى، وبما كسبت أيديهم، وذلك إذا حصل الخروج عن شرعه ومنهجه، ولما عتوا عما شرع الله لهم من الأحكام في الأموال قيد الإباحة؛ جعل لهم ما في الأرض جميعاً منه، وأباح لهم أنواع المعاملات كل المعاملات، ولكن قيد هذه المعاملات المالية بأمور: كتحريم الربا والميسر، والجهالة والغرر، وبيع المعدوم والمجهول، ونحو ذلك، فلما خرجوا عن نهجه جاءت الأزمات والكوارث، وحصل ما حصل، وكان من نتيجة ذلك -ولا شك- ما أصاب الناس من الخسائر في أنحاء العالم، صدمة قاسية، انهيارات، كوارث مالية، فقد الوظائف، عجز، انتحارات، أنواع من الانهيارات العصبية والنفسية، خيم الوجود والسكون: لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَسورة الأنبياء: 13.

الآثار النفسية للأزمة المالية

00:02:45

وهكذا تحصل أنواع المصائب النفسية من القلق والاكتئاب، حتى إن بعض الباحثين يقول: لم أشهد يوماً طول ممارستي هذه المهنة، أي: في العلاج النفسي منذ عشرين عاماً ما يشبه ذلك، إن مستوى القلق يحطم كل الأرقام القياسية، الحزن، والحرمان من النوم لماذا؟ أبقت الأزمة كثيرين مستيقظين في العالم دون نوم ليلاً؛ يفكرون في التكلفة المعيشية، والديون على البطاقات الائتمانية، وتسديد الرهون العقارية، وهكذا، ومع ضعف الإيمان يحصل الانتحار، وقتل النفس بعد قتل الأولاد، وإهلاك العائلة، لماذا يا عباد الله؟

لأنه عندما يكون المال هو كل شيء في الحياة إذا فقد فلم العيش بعده؟ لكن عندما يكون للإنسان دين وإيمان؛ فلو فقد ماله يبقى له ربه الذي يعبده، ونبيه الذي يؤمن به، وإسلامه الذي يدين به، وقرآنه الذي يقرؤه، وبيت الله الذي يأتيه، وصلاته التي يصليها، وأولاده الذين يربيهم، وزوجته التي يرعاها، وجيرانه الذين يحسن إليهم، والإخوة في الله التي لها حقوق وواجبات، يبقى أشياء كثيرة ليست نهاية العمر في خسارة مالية، وقد ذكرنا ربنا بقوله: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّاسورة الفجر: 20، ولكن إذا طغت هذه المحبة على محبة الله حصلت الكوارث؛ ولذلك قال: تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم[رواه البخاري برقم (2887)]، لماذا؟ لأنه صار عبداً، يشقى إذا فقد معبوده.

وهذه الصدمات التي جعلت بعض الناس شبه فاقدي العقول، ويُحملون من الصالات إلى العيادات، ويقفز أحدهم فوق المكتب كالمجنون لخسارته في هذه البورصة، وتأتي المنظمات العالمية لتحذر من الاضطرابات العقلية، والضغوط النفسية، وهكذا أنواع الغلاء والوباء والبلاء، وإصابة البشرية بأمراض الفقر.

علاجات الأزمة المالية

00:05:34

عباد الله: لكل كارثة مالية نتائج اجتماعية: بطالة ترتفع، ووظائف تفقد، وعشرون مليوناً من البشر -كما يقدرون- سيفقدون وظائفهم نتيجة هذه الأزمة، وحصول أنواع الفقد للأمان الاجتماعي من مسكن ونحوه، كساد وتباطؤ، وانكماش وانحسار، وربما انهيار، وفي الجانب الآخر إذا لم يحسن في قضية التصرف في هذه الحالات فإن أنواعاً من العنف الأسري والطلاق، وانتشار الرذيلة، ونحو ذلك يحصل عند هذا، فماذا لدى المسلمين من الأرصدة والضوابط، والعلاجات لمواجهة الكوارث والأزمات المالية؟.

أولاً: يا عباد الله أيها الأحبة، نحن مسلمون موحدون، توحيدنا هو الذي يعصمنا، عندما يركن الإنسان المسلم إلى ربه؛ فإن ربه يحميه ويحفظه، يقويه ويؤيده، أما إذا آوى إلى الدنيا، فإن الدنيا ركيكة ضعيفة: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَسورة هود: 43، وهنا تبرز أهمية التوحيد، وعدم خلطه بشيء من الشرك في مواجهة الأزمات، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أي: بشرك، أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُسورة الأنعام: 82 فالأمن في مواجهة الأزمات المالية يكون بتحقيق التوحيد، تفرد الله بالعبادة، لا تصرف أي نوع من أنواع العبادة؛ لا صلاة، ولا دعاء، ولا استغاثة، ولا نذر، ولا ذبح، ولا غير ذلك لأحد غير الله ؛ لا ولي، ولا نبي، ولا ملك، ولا ميت، وكذلك تحقيق التوحيد بعدم اقتراف شيء من الشرك؛ لا الحلف بغير الله، ولا لبس التمائم، ولا إتيان الأضرحة، ولا كذلك إتيان المشعوذين، والكهان والعرافين، أيضاً أنواع هذا الضرب بالرمل والودع، واعتقاد أن أحداً غير الله يعلم الغيب، ونحو ذلك من أشكال الشرك المنافية للتوحيد، إذا صفا التوحيد رزق الله صاحبه الأمن، وأما إذا صار توحيده مخلوطاً بالشرك يسقط هذا التوحيد بالشرك الأكبر قطعاً: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِسورة البقرة: 257;ظلمة الهوى والشهوة، والطغيان والكبر، والضعف والذل، والطمع والحرص، والشك والنفاق.

;الإيمان والتوحيد يعطيك -يا عبد الله- السعادة والهناء في الحياة ولو أصابتك مصائب، نعم تمر ثقيلة على النفس لكن تتحملها النفس، يستوعبها القلب، يصمد أمامها، فيه قوة إيمان تجعله راسخاً إذا هبت عواصف الأزمات، وأما من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً، من الذي له الحياة الطيبة؟ قال تعالى: وأيضاً فإن المسلم إذا تفكر في الصفات التي ذكرها الله للإنسان في القرآن يحذر الصفات السيئة: إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًاسورة المعارج: 19- 21، وهكذا رأيت الخوف والرعب، والقلق والاضطراب، والهلع يعصف بالناس في أسواق البورصات في طول العالم وعرضه، مع أن بعضها ليس له تعلق شديد بالبعض الآخر، ومع أن الظروف في بلدان تختلف عن أخرى، لكن الهلع الذي سيطر على الناس، أين الدين والإسلام، والتوحيد والإيمان؟ أين قول النبي ﷺ:  عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له [رواه مسلم برقم (2999)].

 

عندما يقلق الناس على أموالهم، ويحصل نسيان الرزاق الذي بيده الأمور هو الذي يدبر الكون، من الذي يحرك كل هذا؟ من الذي يقدر كل هذا؟ من الذي كتب كل هذا؟ من الذي يرزق النملة في جحرها؟ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَاسورة هود: 6، ولو صدقنا في التوكل لرزقنا الله كما يرزق الطير رزقاً مضموناً يسيراً سهلاً هنيئاً، تذهب في الصباح خاوية البطون لتعود في المساء، وقد امتلأت بطونها.

أيها الناس،  اتقوا الله، وأجملوا في الطلب؛ فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها  يقول حبيبك ونبيك ﷺ:  فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها يعني: قد يبطئ الرزق على الإنسان أحياناً لكن يأتي، وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب؛ خذوا ما حل، ودعوا ما حرم  رواه ابن ماجه، وهو حديث صحيح [رواه ابن ماجه برقم (2144)، وصححه الألباني في الجامع الصحيح برقم (2742)].

تذكير للعباد بأن المال ملك لله، هو الذي أعطاه، وهو الذي أخذه، ثم تذكير آخر: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍسورة النحل: 96.

وأيضاً فإن التقوى لو قامت يأتي الرزق: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُسورة الطلاق: 2-3، هذا الذي يجعل الإنسان يأمن إذا اجتمعت عليه الأفكار الموحشة: ماذا عن المستقبل؟ ماذا لو ارتفعت الأسعار أكثر؟ كيف أنفق على الأولاد؟ من أين رزق الأهل؟ كيف أدفع إيجار البيت؟.

عباد الله، إن إيمان المسلم بقضاء الله وقدره، وأنه مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَاسورة الحديد: 22، والمكتوب سيقع: ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك  [رواه أبو داود برقم (4699)، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة برقم (115)].

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوسع لنا في أرزاقنا، وأن يبارك لنا في أعمارنا، وأن يجعل ما أتانا عوناً على طاعته.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:12:52

الحمد لله الغني الكريم، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خالق السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، البشير والنذير، والسراج المنير، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد إمام الهدى، الذي أرسلته رحمة للعالمين، اللهم بارك عليه وذريته الطيبين الطاهرين، وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

تعامل مع الأزمات بحكمة

00:13:33

عباد الله، يبقى المسلم له حكمة في التعامل مع الأزمات والضوائق، فلا يعيش مع الأوهام، ولا يريد أن يتشبع بما لم يعط، وإذا أصر على ذلك سيقترض ويتلف؛ مجاراة للناس! "صحبت الأغنياء فتحسرت -كما يقول بعض السلف-، أرى على أحدهم ثوباً خيراً من ثوبي، ودابة خيراً من دابتي، وبيتاً خيراً من بيتي، وصحبت الفقراء فاسترحت" [انظر الحلية لأبي نعيم (4/243)].

عباد الله، فتح باب الاستدانة على مصراعيه يُهلك، وأكثر من تضرر في هذه الأزمة الذين اقترضوا بالربا، ولما جاء السداد، وما عندهم ما يسددونه صار الأساس والزيادة فوق رأسه؛ فانهار من انهار، واكتوى بالنار من اكتوى؛ ولذلك فإن هذه القضية الخطيرة -الفكرة الاستهلاكية الدافعة للاقتراض-، قد أثرت على العالم، ازدادت الديون العائلية من ستمائة وثمانين ملياراً -في عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين- إلى أربعة عشر ترليون دولار اليوم، لماذا؟ هذا الطبع الاستهلاكي، ولم تعد القضية أن ينفق الإنسان بحسب ما يأتيه، كما هي الحكمة، أن تنفق على قدر دخلك، وتبقي شيئاً للادخار، صارت القاعدة الآن: اقترض لتشتري ما تشاء ثم بعد ذلك تسدد، وهذه الطامة التي قصمت ظهور كثير من الناس في العالم.

عباد الله، لا بد لنا من لجوء إلى الله، وأن نعلم أن ما عند الله خير مما عندنا، وأن المستقبل بيده، قال: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاسورة لقمان: 34، وهو عز وجل كل يوم هو في شأن؛ يرفع قوماً، ويخفض آخرين، يحيي ويميت، يعز ويذل، يغني فقيراً، يفقر غنياً، يجبر كسيراً، يعطي قوماً، يمنع آخرين، يميت ويحيي، يرفع ويخفض؛ ولذلك لا بد من اللجوء إليه لا إلى غيره، والذين يظنون أن هذا الميسر والقمار في التأمين التجاري هو الذي يضمن المستقبل، قد تبين أن ظنهم سراب، فلما خطرت في بال أصحاب الأموال الربويين الخواطر الشيطانية، وكان مفروضاً عليهم إبقاء جزء من أموالهم احتياطاً عند الإقراض، لا يقرضون كل ما لديهم، ففكروا كيف يستثمرون الباقي الاحتياطي؟ فأتاهم الشيطان بفكرة التأمين على الاحتياطي، فذهبوا إلى شركات التأمين يؤمِّنون على الاحتياطي الذي من المفترض أن يبقى، ولا ينفق، ولا يقرض، ولا يستثمر، فلما حصل التأمين بالأسعار، وحصلت الكارثة والأزمة، واحتاجوا للسيولة ذهبوا لشركات التأمين: أعطونا، قالوا: ما استعددنا لهذه المبالغ! ونظريات الاحتمالات التي بنينا عليها هذا التأمين لم تكن لتشير إلى حدوث أزمة كهذه، ليس لكم شيء عندنا الآن، فسقطت المصارف، وسقطت شركات تأمين كبيرة؛ لأنك إذا زوجت الربا بالميسر ما هو المولود المتوقع؟ يريدون الإقراض بالربا، والتأمين على الأرصدة التي كان من المفروض أن تبقى بعد الإقراض، وهكذا صارت الكارثة.

 

ما عند الله خير وأبقى

00:17:18

المسلم لا يمكن أن ينجر بدافع الطمع والجشع لا إلى إقراض بالربا، ولا إلى اقتراض بالربا، ولا إلى أنواع الميسر، والمسألة مسألة مبدأ وقناعة: وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىسورة القصص: 60، قال تعالى حتى في الأشياء المباحة: مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَسورة الجمعة: 11، فكيف بالحرام؟ وإذا أصيب المسلم طريقه معروف، يسترجع: إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِملك له، يفعل فينا ما يشاء، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَسورة البقرة: 156يقول الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها  [رواه مسلم برقم (918)]، وليعلم أنه إذا كان عنده قوت يومه فهو بخير وعافية: من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا [رواه الترمذي برقم (2346)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6042)].

عباد الله، يتذكر المسلم بذهاب الأشياء ذهاب نفسه.

نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة فلست آسى على شيء إذا ذهب

 

يتحلى بالقناعة: قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه  [رواه مسلم برقم (1054)]،  انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم  [رواه مسلم برقم (2963)]، ثم مهما كان عندك من المال فأنت لا تحتاج إلا إلى شيء منه: يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت  رواه مسلم [رواه مسلم برقم (2958)].

الباقي ذاهب للورثة سيتركه ويغادره، إن الطمع الشديد يتلف ويهلك، والحرص والجشع يكون فيه حتف الإنسان أحياناً.

دع الحرص واقنع بالكفاف من الغنى فرزق الفتى ما عاش عند معيشه
وقد يهلك الإنسان كثرة ماله كما يُذبح الطاووس من أجل ريشه

 

فلولا ريش الطاووس ما أخذ وذبح، وقد يكون عند الإنسان من الزيادة ما يطمع غيره فيه؛ فيكون في ذلك الهلاك، و نعم المال الصالح للرجل الصالح  [رواه أحمد برقم (17346)، وصححه الألباني في تحقيق المشكاة برقم (3756)]، إذا زاد عن حاجته واسى، وأقرض، وتصدق، وقام بالعيال، والرحم والأقارب، ثم لا يأس عند المسلم حتى لو وصل للصفر يمكن أن يعود مرة أخرى، والشواهد على ذلك كثيرة، ومنها: أن عبد الرحمن بن عوف جاء من مكة، كان له مال، كان تاجراً، قوافل اليمن والشام فيها تجارته، لما هاجر ترك كل شيء ذهب إلى المدينة صفراً، أخذ الكفار ماله، استولوا عليه، هل رضي بأن يعطى مساعدة؟ لا، ماذا قال؟ "دلوني على السوق" [رواه البخاري برقم (5072)]، ذهب وباع واشترى، وباع واشترى، وكسب وربح، وطعم وأطعم، وتزوج، وصار من الأغنياء، وأنفق في سبيل الله، وعلى من بقي من أهل بدر، وصل زوجات النبي ﷺ، وجهز الجيوش في سبيل الله، وعنده خير كثير بقي لأهله وأولاده.

نحتاج -عباد الله- إلى الاقتصاد في المعيشة، والتوسط في النفقة، وهذا من الحكمة، وألا نسرف، والذي حصلت له خسارة في تقصيره يستفيد من قصة أصحاب الجنة: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِسورة القلم: 19-20،كالليل المظلم احترقت، ماذا حصل بعد ذلك؟ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَسورة القلم: 30-32،قيل: إن الله أبدلهم في الدنيا خيراً منها؛ لأنهم دعوه بصدق، وأيضاً: لا بد أن نكون أصحاب إحسان؛ فترعى أخاك المسلم إذا أصيب بمصيبة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لقد أتى علينا زمان، وما أحد أحق بديناره ودرهمه من أخيه" [قوت القلوب لأبي طالب المكي (2/373)].

كان الكرام وأبناء الكرام إذا تسامعوا بكريم ناله عدم
تسابقوا فيواسيه أخو كرم منهم ويرجع باقيهم وقد ندم

 

إذاً فاتهم المساعدة، قام واحد بالمطلوب، ما ترك مجال للآخرين للمساعدة، يرجعون يريدون المساعدة، ولكن فات الأوان.

تسابقوا فيواسيه أخو كرم منهم ويرجع باقيهم وقد ندموا
فاليوم صاروا يعدُّون الندى سرفاً وينكرون على المعطي إذا علموا

 

يتذكر المحسن صاحب الفضل والزيادة في المال أن  من أنظر معسراً، أو وضع له أظله الله في ظله [رواه مسلم برقم (3014)]، وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍسورة البقرة: 280، ووضع الجوائح في الشريعة؛ ولذلك يواسي بماله، وعمر أراد أن يعطي كل صاحب مصيبة في ماله، وإذا لم يكف بيت المال يأخذ ما عند الآخرين، فيقسمه على الجميع.

ونحن فيما نرى -يا عباد الله- من الآيات في الأزمات صحة هذا الدين، وأنه لا النظريات الشرقية، ولا الغربية تنفع في العلاج؛ لأن الله لما أنزل القرآن والسنة أراد أن يحكم هذا الشرع في الناس، وإذا خالفوا شرعه سلط الله عليهم ما يبين لهم انحرافهم، يريهم آيات! آيات؛ لعلهم يرجعون، لعلهم يؤوبون، لعلهم يتفكرون، وفرصة كبيرة لأصحاب الدين الصحيح، والنظام المالي الاقتصادي الإسلامي أن يقدموا للعالم ما لديهم اليوم، مفردات الاقتصاد الإسلامي تُستخرج من الكتاب والسنة، ويقدم النظام المالي الإسلامي للعالم؛ لأنهم بلا شك في وقت الأزمة يبحثون عن حل.

اللهم إنا نسألك أن تحيينا مسلمين، وأن تتوفانا مؤمنين، وأن تلحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأصلح ذات بيننا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم إنا نسألك الأمن في البلد، والعافية في الجسد، والصلاح في الذرية والولد.

اللهم ادرأ عن بلدنا هذا الغلاء والوباء والبلاء، يا سميع الدعاء، وعن بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سورة الصافات: 180-182، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - رواه البخاري برقم (2887)